فات الميعاد

استيقظتُ في الصباح وقد كُنتُ بالأمس قررت التَخلُّص من كل هذه الصناديق الموجودة داخل الحُجرة، فقدْ آمنتُ أنه حان وقت التطَّهُر من هذا الذي تَركوه لى. أو قُل أنه حان منذ وقتٍ مَضى؛ ولكني لم أكُن وقتها آمنت إيمانًا كاملًا مثل الآن وكذلك لم يَكُن في إمكاني التوَّقُع أن تزداد كمية هذه الصناديق المُغلقة التي فات على وجودها دهر طويل بهذا القَدِر مع مرور الأيام حتى أنها صارت تخنقني وكأنها جبًلا يحجُب عنى الرؤية. نهضتُ، وبدأتُ في رفع أكمام جلبابي الضيّق لأحمِل صندوقًا صندوقًا ثم أضعه بالقُرب من باب الشقة حتى يأتي (فارس) ويأخذهم. كان عليّ أن أُسرِع؛ ليس هناك مُتسعٌ من الوقت.

   لن أدَّعي أنني استطعتُ بسهولة حَملِهِم ووضعِهِم فوق بعضهم البعض؛ فالعجيب أنهم أكثر مما تصورت بكثير! كيف ومتى؟ أين كان عقلي عندما وافقت أن يتركوا لى كل هذه الصناديق التي لا أعلم حتى ماذا يوجد داخلها؟ وكيف لم ألحظ أنهم يتكاثرون مع الزمن وكأنهم كانوا في ركن لم ألحظه قبل هذه اللحظة؛ وكُنتُ كُلمَّا ظننت أني انتهيت، فإذا بي أجد أنه ما زال أمامي الكثير من الصناديق الموجودة في أماكن أخرى: فوق وداخل الدولاب وأسفل السَرير، كمَّا أنه لا يُسعِفنى إطلاقًا جلبابي الضيق هذا! بعد محاولات عديدة تمكنتُ من جمع معظمهم ولكن كان يتبقى الكثير؛ عاد اليأس يُراودني من جديد: لن أستطيع؛ إنه مجهود جبار؛ تخيل أنك تُحاول إزالة جبل قُمتُ أنت بوضعه أو وضعه لك أحدهم وظل الجبل ينمو لأعلى وقاعه يلتصق بالأرض أكثر وأكثر بل ويمتد إلى جذورها أيضًّا! يا إلَهي؛ لقد تَقدَّم بي العُمر لم أعُد شابة صغيرة لأتحمَّل كل هذه المشقة؛ ظهري يؤلمني بشدة؛ ليس بإمكاني الانحناء أكثر من ذلك. ولكني صممت ألَّا يتمكن مني اليأس هذه المرة؛ فَبَعد معاناة ووقت ومجهود وعَرق، تمكنتُ من جَمعهم جميعًا وبدأت فى جَر كل صندوق حتى أضعه عند باب الشقة ليأتي حارس العقار كما اتفقت معه ويأخذهم بعيدًا. كانت أنفاسي تكاد تذهب مني بالكامل وشعرت أني سأسقُط على الأرض سقطة مُدوية ولكني أسندتُ ظهري على الباب حتى هدأت أنفاسي قليلًا.

   وعندما انتهيت، نظرت إلى منظر الصناديق وهي مرصوصة فوق بعضها في صَّفين طويلين يكادا يقتربان من لمس السقف، انقبض قلبي وتملَّك مني الخوف الشديد. فإني مُقدِمة على خطوة جريئة ولكني لا أعرف تحديدًا ما السبب وراء كونِها جريئة؛ فهي في الظاهر عملية بسيطة وليست مجازفة قوية؛ فإنه شيء طبيعي يحدُث كل يوم. ومع ذلك فلقد شعرتُ بخفقات قلبي المتسارعة التي تنبئني بكارثة؛ والتي تحاول إخباري بأن شيئًا كهذا لن يمر هكذا مرور الكِرام!

   ماذا أصابني؟ كيف أُقدِم على فعلٍ كهذا؟! لا، لا، إنه لشيء قاسٍ! أعلم أنه رُبما يكون هذا هو الأفضل من أجل صحتي ونفسيتي ولكن كيف لي أن أنساهم؛ فهم أوصُوني ألًّا أفرِّط في أي من هذه الصناديق أبدًا وأن أحافظ على بقائها هُنا داخل الحُجرة! أتذَكر أمي عندما أخبرتني وأنا أكاد أقترِب من سن المراهقة أنه لا حق لي في الاعتراض على إبقائهم بغُرفتي حتى وإن ظننتُ أنه ليس هناك فائدة من وجودهم. هززتُ رأسي وقُلتُ بصوت هادئ: وماذا يوجد داخلها يا أمي؟! ردت بصرَّامة: ليس لكِ الحق أن تسألي كما أخبرتك ولكن فيها أشياء قد تكون بنظرك ليست ثمينة ولكن في الحقيقة هي أشياء لن تُعوَّض ولا تُقَدَّر بثمن وعليكِ أن تُحافظي عليهم في عينيك حتى لا يحزن منك أَحِبَّائِك، فتَحزَني أنتِ بعدها على حالك! ولا يَخطُر ببالك أن تفتحي إحداها! أتسمعينني؟ ومنذ أن أوصتني أمي وأنا لم يَكُن في استطاعتي أن أمنع أخي وزوجي من إلقاء ما يرغبون إلقاءه فى حُجرتي! فإنها وصيَّة أمى ووصايا الأمهات تُنفَذ مهما كان. ليست أمي وحدها التي ستحزن؛ كثيرون سيحزنون لهذا الخبر حُزنًا عميقًا أخي، زوّجي، حتى أبي في قبره؛ فالجميع له صناديق عندي ليس من حقي التخلُّص منها بهذه السهولة. ابنتي الوحيدة هي التي لم يكُن لها أى صناديق! غريبة كيف لم ألحظ هذا أيضًا من قبل؟ ولكن ما الحل الآن؟ فالوقت ضَيّق ومن الممكن أن يعود أحدهم أو تستيقظ أمي؟ ليتها تعود (أمل) من السفر مُبكرًا لتُخبِرني ماذا أفعل كمَّا تعودتُ دائمًا على الأخذ بنصائحها؟ ولكنها بالفعل نصحتني كثيرًا من قبل أن ألقي بكل هذه الصناديق في الخارج ولا ألتفت لشيء وكان ردى: هذه وصيَّة وأمانة؛ كيف لى أن أفعل هذا؟ تعوَّدي أن تكوني مُخلِصة يا أمل! أخبرتني بابتسامة ساخرة: مُخلِصة لمن؟ أجبتُ بمنتهى السرعة ودون تفكير: لأَحبَّائِك جميعهم طبعًا! ابتسمتْ ابتسامة صافية لتقول: إنك أطيب امرأة على وجه الأرض يا أمي! فَرِحتُ فرحًا شديدًا وقُلت: جميع الأمهات كانت طيّبات القلب في زمننا!

   لماذا إذن لا يسترد الجميع صناديقه؟! لماذا يرفضون جميعهم؟ حتى أني لم أفلح أيضًا في إقناع أحد! فكنتُ إذا فاتحتُ أمي في هذه المسألة؛ تُعنِفني وترفض أن تستكمل معي الحوار وتختم حديثها القصير قائلة أنها لن تسترد شيئًا: سوف تعلمين بعد موتي أنه ما كان يشغلني سوى سعادتك وراحتك! وعندما حاولتُ أن أَرُدُ لزوجي وأخي صناديقهم، رفضوا رفضًا قاسيًا قائلين: ليس هناك مكان آخر نضع فيها تلك الصناديق سوى حُجرتِك؛ فحاولي أن تتحملي المسئولية كما عهدناكِ! وبالفعل تَحمَّلتُ مسئولية لا تَخُصُني كثيرًا حتى بدأ يتسرب مني الغضب عندما أشُم الرائحة الخانقة التي تنبعث منها! 

   عُدتُ من رحلة الأفكار الشاردة، نظرتُ إلى ساعة الحائط وإلى هاتف الموبايل؛ يتصل بي البواب ليأخذ مني الموافقة الأخيرة على أن يأتى ليأخذ الصناديق حيثُ اقترب الموعد المُتفق عليه؛ لا يتبقى الكثير؛ عليّ أن أتخذ قرارًا واضحًا و صارمًا.

   فجأة، قُلتُ لنفسي: لماذا لا أفتح الصناديق وأرى إذا كان بداخلها فعلًا أشياء ثمينة؟! وإذا وجدت أنها تحتوي على أشياء قيَّمة بالفعل؛ سأقوم بإعادتها على الفور. ويجب أن يتم هذا بسرعة وفي الخفاء. لكن كيف سأفتح جميع الصناديق؟ إنها كثيرة حقًّا. إضافةً إلى أنني لن أتمكن من حملهم مرةً أُخرى لأفتحهم بغرفتي! ثم ماذا إذا أغضبهم ذلك مني؟ فمن المؤكد أنهم لا يرغبون أن يعرف أحد ماذا يوجد داخل صناديقهم. أين ضميرك؟ 

      ولكن قد غَلبني الفضول في هذه اللحظة.

    تقربتُ بخوف بضع خطوات، و قمت بوضع يدى على أول صندوق فى الصف الأول. بدأت أُحرِّكه بهدوء.

  انقبض قلبي وشعرتُ بسخونة تسري في وجهي وجسدي كله. تُرى ماذا يوجد بداخلها؟  

     حاولت إزالة (البلاستر) الموضوع على الصندوق بعنف وسرعة وبلا وعي. انفتح أخيرًا بشيء من الصعوبة، ولكنه انفَلت من يدي وسقط على الأرض. خرج منه عدد كبير من الكُتب التي يُغطيها التُراب. نظرتُ مسرعة لباب غرفة أُمي لأتيقن أن الضوضاء لم توقظها، وبالفعل وجدت باب الغُرفة لا يزال مُغلقًا. نزلت على ركبتي إلى الأرض وأخذت أفتح الكُتب وأُقَلّب صفحاتها. كانت الصفحات لونها يقترب من الأصفر من شدة قِدَمِها، فالحروف التي تملأ الصفحات قد تآكلت. وعندما حاولت أن أطَّلِع على محتوى الكُتب، لم أستطع تكوين جملة واحدة مُفيدة؛ فلقد توقفت عن قراءة الكُتب منذ عهد طويل.

  إنها مجموعة كبيرة من الكُتب. هل يُخزِن الجميع في غرفتي مُجرَّد مجموعة من الكُتب القديمة التي لا يوجد على أغلفتها عناوين حتى؟! أهذه هي الأشياء الثمينة!!

  نظرت إلى بقية الصفوف؛ قُمت بسرعة وفتحت بعنف أقوى بقية الصناديق. جميعها بداخلها كُتب قديمة بالية. وقفت مذهولة وسط كم رهيب من الكتب والتراب المندفع منها يكاد يخنقني. كان الغضب يملؤني؛ لقد خدعني الجميع. رضيت أن أُبقى على جميع الصناديق داخل الغرفة كل هذه السنين، لأكتشف فى لحظة أنه لا يوجد داخلها سوى الوهم. مجموعة كُتب أثق أنها لم ولن يُفكر أحد في قراءتها. التفتت أُذناي إلى جرس الموبايل مرة أخرى، ومن الواضح أنه لم يتوقف عن الرَّن.

    رأيت بطرف عيني اليمين خطوات أُمي البطيئة؛ اعتدلت ونظرت لها لأجدها مذهولة لا تكاد تُصدِق ما تراه. ظلت تنظر إليّ وإلى الصناديق في دهشة تحوَّلت بعدها بثوانٍ إلى غضب رأيته بوضوح في عينيها. اقتربت مني بهدوء ظاهري؛ كانت يداي ترتعشان بقوة وخفقات قلبي تزداد من شدة الخوف. وقفتْ أمامي بوجه صلب، ثم قالت: ماذا فعلتِ؟!

  نظرتُ إلى الأرض والكتب من جديد، ثم قُلت: إنها مُجرد كُتب قديمة؟!

  -ولكن ما تحتوي عليه في قمة الأهمية.  

  -وما هو المُهم الذي يوجد بداخلها؛ فأنا لم استطع أن أجد أي شيء مُفيد؟ 

  -ومن أين لنا أن نفهم نحن هذا؟ إنها مؤكد تحتوي على موضوعات يتعسر علينا فهمها. زوجك وأخوكِ أعلمُ بها منا!  

  قبل أن أنطق حرفًا، سمعنا معًا خُطوات تقترب من باب الشقة. أسرعتْ لتعرف من، بينما أقف أنا مُتصلبة مكاني، أخبرتني بصوت خافت: إنه هو!

  نظرتُ لساعة الحائط، إنه بالفعل موعد رجوعه. حاولت أُمي أن تضع كل هذه الكُتب والصناديق الفارغة في جانب واحد بعيدًا عن الباب. ثبتُّ عيناي بقوة على الباب وهو ينفتح؛ رأيته أمامي. وقف على عتبة الباب، نظر مندهشًا عندما رأى الكتب المبعثرة على الأرض بجانب الباب، ثم رفع رأسه وسألنا بهدوء: ما هذا؟ أهذه الكُتب التي كانت في صناديقنا؟

  أجابت أُمي مُسرِعة والقلق يملأ نبرة صوتها: لقد قررت أن أُعيد ترتيب الغرفة، فوضعت الصناديق هُنا مؤقتًا حتى انتهي من عملي بالغرفة، ولكنها سقطت رُغمًا عني وظهر ما بداخلها. عُذرًا، سيعود كل شيء كما كان.

  ابتسم مرة أُخرى وقال ردًّا عليها وهو يغلق الباب دون أن ينظر نحوي: حصل خير ما دُمتِ ستُعيدينها مكانها فورًا!