أوروبا في العصور الوسطى

العصور الوسطى:

اقتطعت العصور الوسطى من عمر البشرية قرابة عشرة قرون، شغلت الفترة الممتدة بين القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وقد تكون عالم العصور الوسطى من ثلاثة مجتمعات رئيسية: مجتمع غرب أوروبا والمجتمع البيزنطي والمجتمع الإسلامي، ولكل منهم حضارته الخاصة التي ميزته عن غيره.

وإن تأثرت تلك المجتمعات الثلاثة وأثرت في بعضها البعض، فلا يُتخيل أن يعيش مجتمع من تلك المجتمعات الثلاثة بمعزل عن الآخر، لذلك يصعب على أي باحث في تاريخ العصور الوسطى أن يدرس تاريخ أو حضارة شعب من تلك الشعوب بعيدًا عن إخوته.

انهيار الامبراطورية الرومانية:

الثابت أن حضارة أوروبا في العصور الوسطى كغيرها من الحضارات لم تولد بيت عشية وضحاها، وإنما جاءت على أثر انهيار الامبراطورية الرومانية وحضارتها العريقة على أيدي القبائل الجرمانية إبان القرن الخامس الميلادي، ومما لا شك فيه أن حضارة أوروبا في العصور الوسطى قد تأثرت كثيرًا بالحضارة الرومانية التي سبقتها ونقلت عنها الكثير خاصةً في بداية ظهورها.

وبمرور الوقت أصبح لها سماتها وخصائصها المميزة، ولم يأت القرن التاسع حتى أخذت ملامح نهضة جديدة تبدو في الأفق، وقد عرفت تلك النهضة باسم “النهضة الكارولنجية” حقيقةً لم تكن تلك النهضة بمثابة وثبة كبيرة، بقدر ما كانت خطوة في سبيل الوصول إلى نهضة أكبر، ولم يمضِ أكثر من ثلاثة قرون حتى بلغت أوروبا درجة كبيرة من الرقي والتقدم عرفت باسم “نهضة القرن الثاني عشر” وكانت تلك النهضة بمثابة الركيزة الأساسية التي اعتمدت عليها النهضة الإيطالية فيما بعد.

مراحل النهضة الأوروبية:

بدأت النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، وعليه يمكننا القول أن حضارة أوروبا العصور الوسطى مرت بثلاثة مراحل رئيسية: النهضة الكارولنجية في القرن التاسع، ونهضة القرن الثاني عشر وأخيرًا عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر الذي جاء نتيجة التقدم الكبير الذي شهدته أوروبا إبان القرن الثاني عشر وما يليه، ومن أهم الخصائص والسمات التي ميزت حضارة أوروبا في العصور الوسطى.

وتتبع معالمها حتى قيام الثورة الصناعية الكبرى وظهور عصر النهضة الأوروبية الحديثة في القرن الخامس عشر، ومن العوامل التي أثرت في حضارة أوروبا العصور الوسطى ومن أهمها الديانة المسيحية وفكرة العالم المسيحي، وغزوات البرابرة والجرمان وقيام النظام الإقطاعي والحروب الصليبية.

العصور الوسطى

الديانة المسيحية:

تعد الديانة المسيحية أهم ما ورثته أوروبا العصور الوسطى من تراث، لذلك عرف هذا العصر باسم عصر الإيمان، هذا وقد استحوذت على وجدان الكنيسة الغربية فكرة “العالم المسيحي” ونعني بها توحيد الغرب الأوروبي في كيان واحد تحت زعامة روحية واحدة هي البابوية والكنيسة الغربية الكاثوليكية، بيد أن تلك الفكرة سرعان ما ذهبت أدراج الرياح نتيجة الصراع المرير الذي نشب بين البابوية والامبراطورية.

واستمر عدة قرون وراح ضحيتة عشرات الألوف، وبدلًا من قيام عالم مسيحي واحد في الغرب ظهرت عوضًا عنه القوميات القوية والملكيات المستبدة في أواخر العصور الوسطى كما هو الحال في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها من الدول، ومع ذلك لم يغب عن بال الغرب الأوروبي فكرة العالم المسيحي طويلًا، في الحقيقة إن جذوتها قد خبت قليلًا، لكنها لم تَمُت تمامًا، فسرعان ما أخذت تلك الفكرة تحيا من جديد في وجدان الغرب الأوروبي.

واشتد أوارها واستعرت جذوتها، وظهر في النصف الثاني من القرن الماضي تكتل كبير في الغرب عرف باسم “الاتحاد الأوروبي” الذي وحد دول غرب أوروبا في كيان كبير ويسعى إلى توحيد دول شرق أوروبا الواحدة تلو الأخرى خاصةً بعد تفكيك الاتحاد السوڤيتي وحلف وارسو العتيق في تسعينيات القرن العشرين.

غزوات القبائل الجرمانية:

تعتبر غزوات القبائل الجرمانية على حدود الامبراطورية الرومانية، ونجاحهم في تقويض دعائمها وإقامة ممالك لهم على أنقاضها من العوامل الهامة التي كيفت تاريخ وحضارة أوروبا العصور الوسطى، حيث تمكنت الحضارة الرومانية العتيقة والعريقة رغم ما لحق بها من انتكاسة من صهر هؤلاء الجرمان في بوتقتها ودمجهم في المجتمع الروماني بعد ما تأثروا بعاداته وتقاليده وتقبلوها عن طيب خاطر، ونجم عن هذا الاندماج ظهور حضارة جديدة عرفت باسم حضارة العصور الوسطى التي عاشت ردَحًا من الزمن ناهز عشرة قرون.

أخلاق الفروسية:

إذا كانت البربرية والهمجية قد سادت أوروبا العصور الوسطى في بدايتها، فإن نظام وأخلاق الفروسية وما يتبعها من مثل وضع الفارس في مرتبة الرجل النبيل الخلوق، وما تزال مثل الفروسية وأخلاقها تعد من أفضل ما ورثته أوربا عن حضارة العصور الوسطى، وما زالت بعض الدول حتى وقتنا هذا تمنح الأوسمة لكبار المفكرين والعلماء بدرجة فارس.

الحروب الصليبية:

الحروب الصليبية - العصور الوسطى

أما الحروب الصليبية، فلا شك أنها كانت علامة فارقة في تاريخ وحضارة أوروبا العصور الوسطى، لما ترتب عليها من نتائج ما زالت آثارها باقية حتى أيامنا هذه، فقد ترتب على قيام الحروب الصليبية ضعف وانهيار النظام الإقطاعي نتيجة اشتراك أعداد غفيرة من عبيد الأرض ورقيقها في تلك الحروب بعدما هجروا العمل في أراضي السادة النبلاء والأشراف تخلصًا من نير العبودية وأمًلا في الحرية والانعتاق.

كما التحق بصفوف تلك الحروب أعداد كبيرة من النبلاء والأشراف سعيًا وراء المجد والشهرة والتماسًا لمزيد من الثروة والمال، الأمر الذي أثر سلبًا على النظام الإقطاعي وأدى مع غيره من الأسباب إلى تقويض دعائمه وأركانه.

إسهامات المسلمين للغرب:

قد ترتب على قيام الحروب الصليبية أيضًا الاحتكاك الكبير بين الشرق والغرب واطلاع الغرب على حضارة الشرق من تقدم وازدهار، فعمل على الاستفادة منه ونقل تلك العلوم والمعارف الإسلامية إليه، فأسهم بذلك في وضع الغرب على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخه عرفت باسم النهضة الأوروبية ومن أهم تراث العصور الوسطى الأوروبية انتقال الحضارة الإسلامية إلى الغرب عن طريق معابر ثلاثة:

الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا وبلاد الشام، ونجاح الأوروبيين في الاستفادة من تلك الحضارة العريقة وتطويرها حتى أصبحت ركيزة التقدم الهائل الذي احرزه الغرب وما زال يحيا في كنفه حتى اليوم، والعجيب أن الحضارة الإسلامية رغم عراقتها وأصالتها وعظمتها فإنها لم تنجح في تطوير نفسها بل توقفت عند نهاية العصور الوسطى.

وكنا نلتمس للمسلمين الأوائل العذر في عدم مسايرتهم ركب الحضارة إبان القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين لتسخيرهم كل موارد البلاد لطرد الغزاة الصليبيين من المنطقة العربية، حيث لم يكن من المنطقي أن يواصل المسلمون تقدمهم الحضاري في ظل مستعمر بغيض يجثم على صدورهم ويحتل أجزاء من أرضهم ويسلب خيراتهم، ولكننا في نفس الوقت لا نغفر لهم استمرار ذلك الثبات العميق الذي ران عليهم وما زال خاصةً بعد استردادهم لأراضيهم ونجاحهم في طرد الصليبيين في أواخر القرن الثالث عشر.

نرشح لك: اسهامات المسلمين للعالم في علم الجغرافيا

النظام الإقطاعي:

لعل من أبرز ملامح حضارة أوروبا في العصور الوسطى ظهور نظام الإقطاع وما ترتب عليه من تقسيم المجتمع الغربي إلى طبقتين متمازيتين، وهما طبقة السادة ملاك الأراضي من النبلاء والأشراف الذين يملكون كل شيء ويتمتعون بكل الحقوق والامتيازات، وطبقة العبيد من رقيق الأرض والأقنان الذين فقدوا حريتهم وأثقلت كاهلهم تلك الأعباء الثقيلة والواجبات الكثيرة التي التزموا بها تجاه ساداتهم الذين لم يرقبوا فيهم إلًّا ولا ذمة.

مما أدى بهولاء العبيد إلى التمرد والعصيان نتيجة تلك المعاملة السيئة التي يلقونها، وهذه الحياة البائسة التي يحيونها، فأخذوا يلتمسون حريتهم بشتى الطرق والوسائل المشروعة منها في نظر ساداتهم وغير المشروعة، فهجروا أراضي ساداتهم والعمل فيها، وهربوا إلى المدن البعيدة يلتمسون فيها عبق الحرية والأمان في حين تمرد من لم يستطع الهرب من هؤلاء العبيد على ساداتهم بعد أن ضاقوا بهم ذرعًا فثاروا عليهم وشهروا السلاح في وجوههم.

عوامل انهيار النظام الإقطاعي:

الحقيقة أن هناك عوامل كثيرة متعددة أدت إلى تدهور النظام الإقطاعي وانهياره، بعضها داخلي وبعضها خارجي وبعضها مباشر والبعض الآخر غير مباشر؛ منها كثرة الحروب الإقطاعية التي نشبت بين الأمراء الإقطاعيين بعضهم البعض مما أدى إلى إتلاف الزرع وتدمير المحاصيل وحرق الحقول، وكذلك أدى الاحتكاك بين الشرق والغرب في القرنين الحادي عشر والثالث عشر إبان الحروب الصليبية إلى انتعاش حركة التجارة في أوروبا وقد أسهم انتعاش التجارة في أوروبا إلى قيام المدن وظهورها.

مما أدى إلى إضعاف النظام الإقطاعي وانهياره، كما أدى قيام المدن إلى ظهور طبقة وسطى تكونت من التجار والصناع، كذلك انتهز الفلاحون والأقنان وعبيد الأرض فرصة الحروب الصليبية ووجدوا فيها المنقذ والمخلص لهم من رق عبوديتهم، كما كان لاكتشاف المدفع والبارود دور كبير في الإجهاز على نظام الفروسية حيث لم يكن بوسع الفارس الصمود أمام تلك الوسائل العسكرية الحديثة، كذلك حرب الـ “مائة عام” بين إنجلترا وفرنسا.

مما أدى إلى تكوين جيش قوي في فرنسا استخدمه الملوك في مقاومة أمراء الإقطاع ودك معاقلهم وحصونهم، كذلك نشأت الجامعات الأوروبية حيث أدت دورًا كبيرًا في تنوير المجتمع وظهور طبقة جديدة من المثقفين والمتعلمين، وهكذا أخذ النظام الإقطاعي يترنح شيئًا فشيئًا، بسبب الضربات القوية التي توجه له من كل جانب، وأدى ذلك إلى ظهور مرحلة جديدة لها خصائصها ومميزاتها التي تختلف عن سمات العصور الوسطى.

المراجع:

  • تاريخ اوروبا في العصور الوسطي ، تأليف محمد فرحات ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر..
  • تاريخ أوربا في العصور الوسطي ، تأليف محمد أمين ، دار النهضة العربية.
  • حضارة أوربا العصور الوسطي ، تأليف موريس كين ، ترجمة قاسم عبدة.
  • اضمحلال العصور الوسطي ،ترجمة عبد العزيز جاويد تاليف يوهان هويزنج.
  • الفرسان والاقنان في المجتمع الأقطاعي ، تأليف اسحاق عبيد ، دار النشر بنغازي 1975.