الشيخ محمد عبده .. ثائرًا مُصلحًا وإمامًا زعيمًا

   ملخص ومقدمة المقال:        

أفنى الشيخ محمد عبده حياته في خدمة دينه ووطنه، فكان زعيماً وإماماً وفيلسوفاً لم يقتصر تأثيره على مصر فقط بل تأثر به المسلمون والعرب في جميع أنحاء العالم. وكان رائداً للتنوير في عصر ازدادت فيه مأساة العالمين الإسلامي والعربي، ليبعث فيهما الأمل من جديد. له العديد من الأفكار والنظريات التي تصلح تماماً لعصرنا هذا، ومن هذه الأفكار: فكرته عن الحرية الإنسانية.

محمد عبده

ظروف عصر الشيخ محمد عبده:

عاش الشيخ الإمام محمد عبده ( 1849 – 1905 ) في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تلك الفترة التي كان يعيش فيها العالم الإسلامي في حالة تدهور مستمر انتهت في أواخر هذا القرن بدخول الاستعمار الأجنبي الغربي إلى الشرق العربي. 

 وكانت الدول الإسلامية تزداد تخلفاً في الشرق بينما الدول الأوروبية تزداد تقدماً في الغرب، وأصبحت حال المسلمين تدعو إلى الرثاء بسبب ما أصابهم من تدهور في مختلف الشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ثم العسكرية، والتي أدت بهم أخيراً إلى الوقوع فريسة للاستعمار الأجنبي. ولم يقتصر الجمود والتدهور على أمور الحياة فقط، بل امتد كذلك ليصيب الحياة الدينية الإسلامية؛ فتحول الدين إلى شروخ آلية لفكر القدماء دون أية إضافات إبداعية جديدة تلائم ظروف العصر الصعبة والويلات التي يعاني منها المسلمون في أوطانهم، وأصبح الأساس في دراسة الدين هو النصوص واجتهادات القدماء والاكتفاء من الدين بممارسة العبادات دون أي اجتهاد وبلا سعي إلى التجديد.

وكرد فعل لهذا الوضع المرير ظهرت شخصيات إسلامية لتحمل لواء اليقظة الإسلامية وتدعو المسلمين إلى الثورة؛ ثورة دينية ودنيوية. وكرست هذه الشخصيات حياتها لخدمة هذا المراد جامعة بين الدين والوطن؛ لا فاصلة بينهما ولا خالطة، لذلك عندما يذكرهم التاريخ يصفهم بالأئمة الإسلاميين والزعماء الوطنيين في آن واحد.    

 وكان من أهم هؤلاء الرجال الإمام جمال الدين الأفغاني ( 1837 – 1897 ) الذي ظل يتنقل كالشعاع المضيء بين الدول الإسلامية لينشر دعوته إلى اليقظة الجديدة للمسلمين، معتمداً في ذلك على إثارة الوعي الديني لدى قيادات المسلمين والدعوة إلى تأسيس “الجامعة الإسلامية”. فقد رأى الأفغاني أن يقظة العالم الإسلامي لن تتم إلا بوحدته تحت لواء جامعة إسلامية تكون أساساً لتجديد قوة المسلمين والأخذ بيدهم نحو التقدم، وذلك إلى جانب حفزهم على الثورة ضد الظلم والاستبداد والفساد والتصدي للتدخلات الأجنبية والاستعمار.

في تلك الأثناء كان الشيخ محمد عبده منغمساً في الكفاح الوطني في مصر ضد الفساد وضد التدخلات الأجنبية في البلاد. وقد اشترك في ثورة “أحمد عرابي” عام 1881 ضد “الخديوي توفيق” ليتم القبض عليه وسجنه ثم نفيه خارج الوطن لمدة ثلاثة أعوام قضاها بين بيروت وباريس حيث اشتهر بوصفه ثائراً أزهرياً، وحيث قد تعرف على جمال الدين الأفغاني وتتلمذ على أفكاره الثورية واتجاهاته الإصلاحية للنهوض بالمسلمين وتجديد الفكر الديني وتطوير المجتمع.

وقد صاحب الإمام محمد عبده الإمام الأفغاني في كفاحه وأصدرا معاً في باريس مجلة العروة الوثقىلمخاطبة المسلمين في جميع أنحاء العالم وتشجيعهم على النهوض بدينهم وأوطانهم، وقد منعت بريطانيا نشر المجلة في مصر والهند لأنها كانت تحث المسلمين على محاربة الاستعمار كذلك. وظلا يواصلان كتاباتهما الثورية حتى وقع بينهما خلاف بسيط حول طريقة التغيير والتجديد، إذ كان يرى الأفغاني أن التغيير يأتي بالثورة، ولكن محمد عبده كان يرى أنه يأتي بالإصلاح التدريجي، ولكن كان هذا الخلاف في غاية الرقي في الجدال، ولم يتبادلا العداء أبداً بسببه .

جهود الشيخ محمد عبده الإصلاحية:

عاد الشيخ محمد عبده ثانية إلى مصر بعد أن احتلها الإنجليز ووجد أن الأوضاع قد ساءت أكثر قائلاً مقولته الشهيرة ” ذهبت للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكن لم أجد إسلاماً “، وقال أيضاً ” كل ما يعاب على المسلمين ليس من الإسلام، و إنما هو شيء آخر سموه إسلاماً”.

 وقامت دعوته الإصلاحية على :- 

* إصلاح الأزهر الشريف حيث كان يعتبر” أن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام فإن إصلاحه إصلاح لجميع المسلمين، وفساده فساد لهم”.

* النهوض بالتربية والتعليم، وإعداد الأمة للحكم النيابي الديمقراطي ولإقامة الدولة المدنية. حيث كان يرى أن استخدام الدين مطية للسياسة يضر بالدين والسياسة معاً، ودعى لإبعاد رجال الدين عن الحكم. وكانت نظرته هذه مبنية على أساس أنهم قد يعتبرون رأيهم صواباً يتماشى مع الدين دون أن يدركوا أنه خطأ يجافي الدين.

 * النهوض بالتعليم الديني بطريقة إبداعية بوصفه أداة نشر الوعي بين كل أفراد الشعب.

* الثورة على الظلم والاستعمار وأعوانه الذين قال عنهم “إننا لا نريد خونة وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية”. 

* تجديد الفكر الإسلامي ليواجه بكفاءة تحديات ذلك العصر، حيث كان يرى أن الفكر الذي يكون مقيداً بالعادات مستبداً للتقليد لهو فكر ميت لا قيمة له، و أن حياة كل أمة تقوم باستعدادها لكل زمان بما يناسبه، ومن غالب الزمان غلبه الزمن.

* نشر الدعوة الإصلاحية في كافة المجالات ولدى كافة الأفراد حيث يقول أن الفساد يهبط من أعلى إلى أدنى، والإصلاح يصعد من أدنى إلى أعلى، وأنه يأتي تدريجياً.

 ولقد أثرت جهود محمد عبده ودعوته الإصلاحية التحررية للنهوض بالمجتمع المصري بقوة وعمق في كثير من تلامذته وأتباعه، الذين أصبحوا يمثلون مدارس إصلاحية متكاملة، يسيرون فيها وفق تعاليم الإمام في إصلاح وتطوير مختلف جوانب المجتمع، وأصبح لهؤلاء بدورهم صيتٌ واسع وتأثير قوي في المجتمع المصري من أبرزهم: سعد زغلول، قاسم أمين، طه حسين، مصطفى المراغي، مصطفى عبد الرازق. بل امتد تأثيره إلى باقي العالم العربي والإسلامي مثل: عبد الحميد بن باديس، محمد رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم.

في عام 1899 قام الخديوي “عباس حلمي الثاني” بتعيين الشيخ محمد عبده مفتياً للديار المصرية، كذلك أصدر الخديوي مرسوماً يقضي بإنشاء مجلس لإدارة الأزهر وعين فيه الشيخ أيضاً، ومن هنا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده في إصلاح بعض أمور الأزهر التي كان يراها باعثاً على الجمود. وبهذا المرسوم للخديوي أصبح الشيخ محمد عبده أول مفتي مستقل عن مشيخة الأزهر، حيث كان من قبله يجمع شيخ الأزهر بين شياخة الأزهر ومنصب المفتي. بلغ عدد الفتاوى التي أصدرها الإمام وهو في منصب المفتي 944 فتوى.

وجهة نظر الشيخ محمد عبده في الحرية :

لقد بلور الإمام محمد عبده آراءه في عدة نظريات فكرية، كان من أشهرها نظريته في الحرية، تلك النظرية التي هي دائماً من الشغل الشاغل للفلاسفة ورجال الدين، وقد رفض الإمام أن يتخذ منها موقفاً توفيقياً، وإنما انحاز صراحة إلى جانب حرية الإرادة الإنسانية مدعماً ذلك بالأدلة الدينية والعقلية المتنوعة وإنطلاقاً من الطابع العام لفلسفته وهو “الطابع الاجتماعي” الذي تأثر فيه بكل ظروف عصره وأحداث مجتمعه، فكانت نظريته في الحرية تعبر بصدق عن نزعته الفلسفية الإصلاحية وخلاصة هذه النظرية:

1 – الإنسان حر بشهادة العقل والشريعة:

إن العقل السليم يؤكد بالبداهة أن الإنسان حر دون حاجة إلى دليل، فالإنسان يختار الأعمال ويزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته، وكل الأفعال تنسب إلى صاحبها الذي صدرت عنه دون حاجة في ذلك إلى بحث.  والشريعة الإسلامية قامت على مبدأ حرية الإنسان لأنها جاءت بالأوامر الإلهية والتكليفات الدينية التي تفترض حرية الإنسان في طاعتها أو عصيانها.

“وهديناه النجدين ” أي أن الله ميز للإنسان الشر والخير ووضعه في اختبار ليختار بينهما، حيث يترتب على ذلك تحمل المسئولية دون التنصل منها، ويقول:” من لا يذوق لذة العمل الاختياري لا يذوق لذة الراحة الحقيقية لأن الله تعالى لا يضع الراحة بغير عمل”. ومن الآيات القرآنية العديدة الدالة على حرية الإرادة قوله تعالى:” كل نفس بما كسبت رهينة” (سورة المدثر الآية 38) “من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد” (سورة فصلت الآية 46)

2 – حرية الإنسان ليست مطلقة:

إن الحرية المقصودة هنا ليست مطلقة، وإنما هي محدودة ومتناهية وذلك بشهادة العقل أيضاً لأن هناك قوى أخرى تحيط بنا وتحد من حريتنا وتعوق تنفيذ إرادتنا في كثير من الأحيان. وقد أقر الشيخ محمد عبده بأن “لا تناهي” الحرية يتحقق فقط في الذات الإلهية اللامحدودة دون الإنسان المحدود المتناهي.

3 – حرية الإنسان ليست شركاً بالله:

كان الجهميون (نسبة إلى جهم بن صفوان) والأشاعرة (نسبة إلى أبو الحسن الأشعري) يعتبرون حرية الإنسان في خلق أفعاله حسب إرادته نوعاً من الشرك بالله الذي هو وحده الخالق لكل شيء. لذلك حاولوا التغلب على هذه المشكلة إما بالقول بالجبرية مثلما راح الجهميون أو القول بالكسب مثلما راح الأشاعرة. وقد كانت تلقى هذه الفكرة رواجاً في عصر الشيخ محمد عبده، بل ومازال لها أنصار حتى يومنا هذا.

أما الشيخ فعندما نادى بحرية الإنسان في خلق أفعاله حسب إرادته قرر أن هذا الأمر ليس شركاً بالله، لأن الشرك في نظره وحسب في المفهوم الصحيح للدين هو الاعتقاد بوجود إله آخر غير الله -سبحانه وتعالى-  وهو ما لا يتحقق إطلاقاً بمجرد إقرار حرية العبد في خلق أفعاله.

4 – القضاء معناه أسبقية العلم الإلهي:

يرى محمد عبده أن القول بحرية الإرادة الإنسانية لا يتنافى مع “القضاء”، فإن مفهوم الأخير لا يعني الجبر والقهر والإلزام، وإنما معناه هو “سبق العلم الإلهي” أي أن الله تعالى يحيط علماً بما سيقع من الإنسان بإرادته وبأن “عمل كذا يصدر عن فلان في وقت كذا”؛ فإذا كان خيراً يثاب عليه وإذا كان شراً يعاقب عليه، وليس بأن الله (مع حفظ قدرته تعالى) يقرر للإنسان ما يفعله من خير وشر فالله هو العدل لا يكسبنا السيئات وما هو بظلام للعبيد.  

ويؤكد الإمام أن العلم الإلهي السابق لا يحول دون أن يكون الإنسان حراً في أعماله بوجه ما، وذلك لسبب أساسي هو أن كل ما يدخل في علم الله يتحقق بالضرورة، لأنه مادام قد أحاط به الله فلابد أن يكون متفقاً مع الواقع، وهذا الواقع لا يتبدل من ناحية العقل… فإن الإحاطة بما سيقع لا تكون مانعة من الفعل ولا باعثة إليه.

5 – التوكل ليس جبرية واستكانة، وإنما ثقة بالله في السعي والعمل: 

التوكل ليس معناه الجمود والقعود عن السعي والعمل، وإنما المقصود به هو الثقة بالله في السعي للعمل وفقاً للإرادة والعقل. 

وكأن الإمام يريد بهذا المعنى استنهاض همم المسلمين الذين ركنوا في عصره إلى الخمول وترك العمل تحت ستار الدين وباسم التوكل فازداد تخلفهم عن باقي الأمم. وكانوا قد احتجوا على ترك العمل والتواكل بقول النبي – صلى الله عليه و سلم – :” لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ” (خماصاً: جائعة، بطاناً: شبعانة).

لكن الشيخ محمد عبده يصحح التفسير الخاطئ لهؤلاء الخاملين باسم التوكل فيقول: لو صح ما يذهبون إليه لقال النبي عليه الصلاة والسلام “لرزقكم كما يرزق الطير تلبث في أعشاشها وتفتح أفواهها فتصبح خماصاً وتمسي بطاناً”. وإذا كانت الغريزة عند الطير هي التي تدفعها للعمل والسعي وراء الرزق، فإن ما يدفع الإنسان إلى ذلك هو “العقل والإرادة الحرة”.

توفي في 11 يوليو 1905م الموافق 7 جمادى الأولى 1323ه ودفن بالقاهرة، تاركاً وراءه إرثاً عظيماً من المؤلفات والتأثير، وقد رثاه العديد من الشعراء، وكتب عنه الكثيرون مثل الكاتب الكبير “عباس العقاد” في كتابه “عبقري الإصلاح محمد عبده ” والذي وصفه بـ “عبقري التنوير”، ومن هؤلاء الشعراء الذين رثوه شاعر النيل “حافظ إبراهيم”

” بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة       وضاقت عيون الكون بالعبرات
ففي الهند محزون وفي اليمن جازع           وفي مصر باكِ دائم الحسرات    
وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب          وفي تونس ما شئت من زفرات
  بكى عَالَم الإسلام عَالِم عصره               سراج الدياجي هادم الشبهات ”                        

برأيك هل نحن في حاجة إلى أئمة مثل الإمام محمد عبده في عصرنا هذا؟