الأدب العربي وهواجس العالمية

اللّغة فكرٌ ناطق يتجسد بنمط من الرّموز، تحمل الأفكار و تنقل المفاهيم، تعزز التّواصل بين الناطقين بها. و اللّغة العربيّة ديوان البلاغة االتعبيرية  و الزخارف اللّفظية، تقوم على الاشتقاق حيث استخراج لفظٍ من لفظٍ آخر يعطيه معنى جديد، تختص عن سواها بالإعراب فتتحكم الحركات ببيان معنى الجملة. و الأدب العربيّ هو كل ما كتب باللّغة العربيّة في أي مجال من المجالات الأدبيّة، و إن كان الشّعر هو ابنها البار و حامل شعلة أمجادها السابقة، فقد حان وقت نقل هذه الشعلة إلى الرّواية العربيّة. فلماذا تأخرت الرّواية العربيّة بالوصول إلى العالمية؟ و لماذا مازال الأدب العربيّ بمجمله استهلاكاً محلياً صرفاً؟

الشّعر العربيّ و تحديات التّرجمة:

التّرجمة بمجملها مسألة صعبة، و لكن ترجمة عمل أدبيّ هي قضية معقدة، و خاصة إذا ما كان العمل مكتوب بلغة عالية الفنيات الإبداعيّة كاللغة العربيّة. الشّعر في كلّ اللغات أصعبُ الفنون انصياعاً للترجمة، فسحره يكمن في موسيقا كلماته القائمة على اللّفظ و الحركات و القوافي و ليس المعنى الذّي تحمله. عندما نقل بعض المستشرقيين المعلقات إلى لغتهم تهشمت الرّوعة فيها إلى مجرد كلمات مثقلة بالمعاني و لكنّها مطفأة الوهج، بالمقابل هناك ترجمات شعريّة لقصائد الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” إلى الفرنسيّة، و لكنها تبقى حالات فردية و محدودة إذا ما أدركنا  حجم غزارة الإنتاج العربيّ من الشعر.

الترجمة من اللغة العربيّة :

الفن القصصي هو الفن المشاع بين الأمم للتبادل، وهو الأسهل وصولاً للآخرين و الأكثر قابلية للتطويع. الرّواية العربيّة_كمفهوم متكامل الأركان_ هي إنتاج متأخر البزوغ أدخلها “محمد حسين هيكل”  بروايته “زينب”. سبقتها حكايات الف ليلة و ليلة التّي  نُقِلت عن العربيةّ منذ أن اكتشفها الباحث الفرنسيّ غالاند، و انتشرت في سنين قليلة في لغات اوروبا، و كان لها أثرٌ كبير في مسار الفن الروائي الغربيّ، و يجب التنويه إلى أن الف ليلة و ليلة كتبت بالعربية مهما تكون أصولها مستقاة من مصادر يعود بعضها إلى  أمم أخرى. إضافة إلى روايات نجيب محفوظ  الأديب العربيّ الوحيد الحائز على جائزة نوبل للآداب. من الظلم ان نقول أن الأدب العربيّ لا يجد من يترجمه، و لكن المترجم يجب أن يتوافر فيه على الأقل امتلاك ناصية لغتين المترجم إليها و المترجم منها، و القدرة على توظيف بديهيات ثقافة بشكل مفهوم في الثقافة الأخرى، فالمسألة  ليست بسذاجة جملة تقابل جملة، بل الخروج بنص مفهوم و له قبول دون الإساءة للنص الأصلي.

الشّرق الذّي لم يعد ساحراً:

هاجس “ما وراء البحار” و حركة الكشوف الجفرافيّة  في اواسط الألفية الماضيّة  فتح أمام الإنسان الغربيّ آفاق ثقافاتٍ جديدة، لينغمس بفتنةٍ شرقية على ارض الغيبيات و العادات و الفلسفات التّي عابثت فضوله. مشاهد و أساطير غير مألوفة من البساط السّحري إلى رحلات سندباد البحري أثرّت خياله، مفاهيم صوفيّة سعت للسمو بالإنسان و خاطبت دواخله ، جعلته يحمل هذه المفردات الثقافية إلى بلاده. العين التي تفتحت على هذه الأراضي مهدت للاستعمار الغربي، بعد جلاء المستعمرين و التقلبات السياسية في الوطن العربيّ لم تظفر المنطقة  بأي شكل من اشكال الاستقرار الدائم، و أصبح هناك صورة نمطية سلبية عن الإنسان الشّرقي. و في هذه المرحلة الشاقة ولدت الرواية العربيّة،  الأدب بطبيعته شأن داخلي يعكسُ البيئة التي جاء منها مصوّراً كان أم ناقداً، ينقل هوية المجتمع و عاداته و تقاليده، متقمصاً لطبائع و السلوكيات العامة لأفراده. من الصّعب تداول كتاب مترجم دون فهم المجتمع الذّي أنتجه و العقلية التّي حفزّت كاتبه، يتطلب المرءُ عقلاً منفتحاً و فضولاً ضخماً ليستوعب أدباً مكتوباً عن مجتمع لم يملك خلفية ثقافية عنه، بل على عكس ذلك يملكُ منظوراً مسبقاً سلبياً عنه. فبلدان المنطقة بالغالب لا تذكر أسماءها إلا في عناوين الأخبار، و لم تثبت نفسها علمياً أو صناعياً، أو تقدم فناً ملموساً و مختلفاً إلا في حالاتٍ شديدة الفرديّة.

ضعف التّرويج للثقافة العربيّة :

لا توجد ثقافة جديرة بالعالمية دون سواها، و لكن الحقيقة أن الفرص لم تكن متساوية امام جميع الثقافات، و الثقافة هي بالمجمل نمط من أنماط التّرف لا تملكه الشعوب المنشغلة بقضاياها. و إن الانتاجات المرئية هي أول ما تجاوزت الحدود بين البلدان سواء كانت سينمائية أم متلفزة مُبشِرة بثقافة شعبها . هذه الصّناعات  لم تعد حديثة و يتطلب إثبات النفس ضمن هذا المجال أفكاراً جديدة خارج صندوق التكرار و الابتذال. ضعف الترجمة للأعمال العربيّة المصوّرة انعكس على ضعف التّرجمة للأعمال العربيّة المكتوبة، و انخفاض جودة المنتج المصوّر و عدم أصالته _سواء في السّينما و التلفزيون_ جعل هذه الأعمال محصورة بمجال ضيق من المُتلقين. ولقد دخل علينا عام ٢٠٢٠ بظاهرة غير مسبوقة هي فوز فيلم كوريّ بجائزة الأوسكار، مما يبشرّ بعهد ثقافي جديد على قيم و مفردات الثقافة الكوريّة، و التّي قدمت أفكاراً اصلية و غير مسبوقة  أجبرت المتابع  على استراق النّظر.

عولمة الثقافة و الحلم الأميركيّ لدى الكُتاب :

يقول الدكتور “أحمد خالد توفيق ” _رحمه الله تعالى_ في إحدى مقالاته: ” عندما أشاهد أفلام الأمريكيين وحلقاتهم الكوميدية من طراز كوميديا الموقف Sitcom أجد غريبًا جدًا أن يفهم المواطن العربي هذه المواضيع أو يتذوقها لكن هذا يحدث.. مشكلة الفتى المراهق الذي لا يستطيع مواعدة Dating أية فتاة في الصف .. مشكلة الفتاة في الذهاب إلى حفل الرقص السنوي .. مشكلة الطفل الذي لا يحقق أهدافًا في لعبة البيزبول .. ثم الدعابات السمجة: “أطرف شيء حدث لي في طريقي لهذا الحفل ..تصوروا أنني لم أجد زيتونًا للمارتيني!” فينفجر الجمهور ضحكًا ومعه يضحك (عباس) أو (حلمي) من فرط طرافة الموقف.. لا زيتون للمارتيني؟… يا للسخرية!”.

الثقافة الأميركية تحولت من ثقافة مجتمع إلى ثقافة عالمية، و سيادة هذه الثقافة جعلها طريقاً مختصراً للنجاح قد يلتف حول ثقافة الكاتب ذاتها. الكاتب الفرنسي الشّهير “غيوم ميسو” أصدر كتابه الأول في فرنسا عام ٢٠٠١، و لم يجد اي صدى في الوسط الأدبي، فحزم حقائبه و طموحه و سافر إلى أميركا، ليحقق النجاح تلو الآخر هناك، و جعل رواياته _باستثناء روايته الأخيرة “الفتاة و اللّيل” _  تدور على الأراضي الأميركية و تتشرب ثقافتها. رواية “شيفرة بلال” للكاتب العراقي “احمد خيري العمري” تدور احداثها في “بروكلين”.

الكّتابة بغير اللّغة القومية:

اللغة الأمّ ليست مرادفاً بالضرورة للغة القومية الكاتب، قد ينشأ الكاتب في بيئة و في محيط اجتماعي و تعليمي لا يتيح له سوى تعلم لغة أخرى غير لغة قومه الأصلية. الكاتب الفلسطيني الأميركي ادوارد سعيد كتب بالانكليزية التّي تفتح وعيه عليها، بحكم كونها اللغة التي درس بها و كونه أستاذ جامعي للأدب المقارن في جامعة كولومبيا، و كان في مقدمة الحركة التقدمية المعاصرة في الولايات المتحدة، و قد أوصل صوته عالياً في الدفاع عن الحق الفلسطيني و تفعيل ثقافة المشرق العربيّ. و كذلك إن أشهر الروايات التي أدخلتنا قلب أفغانستان المذبوح كتبها الطبيب الأفغاني الأميركي خالد الحسيني، و كان خالد قد ولد في كابول و لكنه خرج منها طفلاً مع أسرته ليتابع دراسته الثانوية و الجامعية في أميركا، و تصبح اللغة الانكليزية جزءاً من نظام تفكيره و أداة أوصل بها معاناة موطنه الأصلي.

التخلي الطّوعي عن اللغة الأمّ :

تقول الكاتبة التّركية أليف شافاق أنها: ” تكتب بقلبها عندما تكتب بالتركية و بعقلها عندما تكتب بالانكليزيّة”، و لكن الحقيقة أن أليف لم تحقق هذه الشهرة الواسعة إلا بعد أن كتبت بعقلها، فروايتها “لقيطة اسطنبول” ضمنت لها الذّكر الواسع  ، رغم أنها لم تكن أول روايتها و لا افضلها  و لكنّها كانت أول ما كتبت بالانكليزيّة. و الرّوائي اللبناني أمين معلوف فضل أن يكتب بالفرنسيّة بكامل اختياره، و أختار لنفسه هوية مفتوحة و إن لم تكن محايدة في معظم الأحيان. جبران خليل جبران كذلك سعى لإتقان الانكليزيّة بغرض الكتابة بها و نجح في ذلك، و كتابه “النّبي” نجح عالمياً بشكل ملفت، و تم ترجمته إلى لغات كثيرة منها العربيّة. و كذلك فإن العديد من الروائيين و الشّعراء المغاربيين استطاعوا أن يقتحموا السّوق الأوروبية الثقافية برواياتهم و قصائدهم المكتوبة باللغة الفرنسية مع أن مواضيعها عربيّة محضة. و من الواجب أن تنويه أن لجان الجوائز الأدبية الكبرى لا تتطلع على النّص الأصلي، بل على النّسخة الانكليزيّة أو الفرنسيّة منه.

العولمة و تأثيرها على الأدب:

الهوية الثقافية هي علامات و خصائص يستقل بها مجتمع عن آخر تبعاً لخصوصيته التاريخيّة و الحضاريّة، و تهدف العولمة إلى ايجاد نمطية ثقافية عالمية تناسب الجميع و تلغي التفرد و تقارب الاختلافات.

العولمة قطارٌ مسرع يركبه البعض و يتسلقه البعض و يجري خلفه من تخلف عنه، يحاول المحافظوّن  اعتراض طريقه و ربما إيقافه، لكنهُ في كلّ مرة يجدُ وسيلة  للتخطي. و عدم ركوبه قد يتجسد عنه انتظارك طويلاً لوسيلة نقل أخرى توصلك لهدفك.