المائدة الأدبية.. أنيس منصور

بعد نقاش سابق على مائدتنا الأدبية إذ توجهنا برحلتنا عبر الزمن إلى أعتاب الكاتب والروائي عبدالرحمن الشرقاوي..

جئنا اليوم الي رحلة جديدة عبر زمن زاخر بحقباته الأدبية المزدهرة على أعمدته المتفردة، والتي يكفي واحدًا منها أن يحمل الثقافة لمجتمع ما لينقله الى أزهى المستويات الفكرية والثقافية؛ فدعنا نستند اليوم على أحد تلك الأعمدة حيث شخصية عُرف عنها الكبرياء والغموض، والعداد بالنفس، والبحث الدائم، والتطلع ليكون من أدباء النخبة في عصره.

فقد كان للكاتب والروائي أنيس منصور إطلاته المختلفة على المجتمع خلال تاريخ أدبي كبير عمره ٦١ عام، وذلك بعد إطلالته للدنيا في ١٨ أغسطس ١٩٢٤؛ أمد المجتمع خلال هذه العقود الستة من فيوضه الفكرية ولمحاته الفريدة وتأثره بالمجتمع وشبابه وطالعة أجياله.

أنيس منصور
أنيس منصور

فقد نشأ في إحدى قرى محافظة الدقهلية، فحفظ القرآن كله وهو في سن التاسعة بكتاب القرية، كما كان يحفظ آلاف الأبيات الشعرية من الشعر العربي والأجنبي؛ استكمل أنيس منصور دراسته الثانوية في مدينة المنصورة حيث كان صاحب المركز الأول على جموع طلبة مصر حينها، وكان ذلك استكمالاً لتفوقه في صغره، حيث اشتهر بالنباهة والتفكير المنطقي السليم، وبعدها التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، دخل قسم الفلسفة الذي تفوق فيه، وحصل على ليسانس الآداب عام ١٩٤٧، وعمل أستاذًا في القسم ذاته لكن في جامعة عين شمس؛ ثم تفرغ للكتابة والعمل الصحفي في مؤسسة أخبار اليوم. 

و ظل أنيس منصور لفترة لا هم له إلا شراء الكتب ودراسة الفلسفة؛ ولكن كانت هناك نقطة تحول بحياته بحضوره لصالون عباس محمود العقاد، والذي كان بالنسبة له بمثابة بوابة على عالم آخر لم يعهده من قبل، حيث سجل كل ذلك في كتاب “في صالون العقاد كانت لنا أيام” وقدم فيه مشاكل جيله وعذاباته وقلقه وخوفه وآراءه في مواجهة جيل العمالقة من أمثال طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وسلامة موسى وغيرهم الكثير من أعلام الفكر والثقافة في مصر في ذلك الوقت، وبعدها أدرك أنه يجب أن يسلح نفسه بثقافة واسعة ليواجه بها تلك الرؤوس الأدبية في ذلك الوقت، فأستزاد في اقتباصه ونهله للعلوم والقراءة والمعرفة عن الثقافات الأخرى، وتعلم بعض اللغات، حتى أنتج لنا مؤلفات قاربت ٢٠٠ كتاب، تشكل في مجموعها مكتبة كاملة متكاملة من المعارف والعلوم، الفنون، الآداب السياسة، الصحافة، الفلسفة، الاجتماع، التاريخ، السياسة، والمرأة والرحلات؛ فهذه الكتب عكست نظرته ورؤيته للكون وللإنسان والحياة أيضًا وساهمت في تشكيل وجدان وثقافة أجيال عديدة من الشباب في العالم العربي كله.

وأيضًا كان لسفر أنيس منصور فضل كبير وميزة جعلته يثرينا والمكتبة العربية بكتابات مميزة في أدب الرحلات، حيث ألف في ذلك عدداً من الكتب منها “كتاب حول العالم في 200 يوم” و”بلاد الله لخلق الله”، “غريب في بلاد غريبة”، “اليمن ذلك المجهول”، “أنت في اليابان وبلاد أخرى”، “أعجب الرحلات في التاريخ”.

وكذلك كانت كتابات أنيس منصور في ماوراء الطبيعة في فترة من الفترات هي الكتابات المنتشرة بين القراء والمثقفين، ومن أشهر كتبه في هذا المجال “الذين هبطوا من السماء”، “الذين عادوا إلى السماء”، “لعنة الفراعنة”؛ كما ترك أنيس منصور عددا من المؤلفات التي تحولت لأعمال سينمائية ومسرحيات، ومسلسلات، ومن أشهرها مسرحية “حلمك يا شيخ علام”، “من الذي لا يحب فاطمة”، “هي وغيرها”، “عندي كلام“.

قد كان لأنيس منصور نشاطًا واسعًا في ميدان الترجمة، حيث ترجم العديد من الكِتابات بلغت نحو ٩ مسرحيات، و٥ روايات، و١٢ كتاباً لفلاسفة أوروببين، وذلك بفضل إيجادته عدة لغات منها الإنجليزية والألمانية والإيطالية، وذلك طبعاً إلي جانب عربيته؛ كما اطلع على كتب عديدة في هذه اللغات، والتي كانت متممة لشخصيته، تُشكل مزيج بين مصريته ومعرفته بالثقافات الأخرى عن طريق قراءة كُتبهم، وجولاته، وسفره؛ كما اهتمت دور النشر العالمية بترجمة الكثير من أعماله إلى اللغات الأوروبية وخاصة الإنجليزية والإيطالية. 

وتم تكليل هذا التاريخ الآدبي في الصحافة والكتابة والترجمة بعديد من الجوائز وأهمها: الجائزة التشجيعية من مجلس رعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في العام ١٩٦٣، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام ١٩٨١، وأيضًا جائزة الإبداع الفكري لدول العالم الثالث عام ١٩٨١، وكما نال جائزة مبارك في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام ٢٠٠١، وحصوله على الدكتوراة الفاخرية من جامعة المنصورة، بالإضافة لوجود تمثال له في المنصورة

فلم يكن أنيس منصور كاتبًا صحفيًا كبيرًا فحسب، بل كان موسوعة بشرية متنقلة، كان ظاهرة وحالة فكرية، وأدبية خاصة في الكتابة والصحافة في مصر والوطن العربي؛ لم يكن مجرد كاتب صحفي كبير ومشهور، كان فيلسوفًا ومفكرًا مبدعًا ومتعدد المواهب، ومواطنًا عالمي انفتح في سن مبكرة على العالم وثقافاته المختلفة دون أن ينسى جذوره المصرية.

وبذلك عاش محبًا للآداب والفنون، دارسًا للفلسفة ومدرسًا لها، مشتغلاً بالصحافة وأستاذاً من أساتذتها، متفرغًا في أواخر حياته لكتابة المقال السياسي والاجتماعي، قبل أن تنتهي تلك المسيرة بوفاته في ٢١ أكتوبر من العام ٢٠١١ عن عمر ناهز ٨٧ عامًا بعد أن ترك لنا مكتبة كبيرة، وبعد أن أثر في المجتمع وثقافته.