قوة المال في صناعة الابتذال

Comments 0

إيه السينما دي؟ إيه الاختراع العظيم ده؟!

هكذا يقف الفنان الكبير عادل إمام  في إحدى دورات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش -عاصمة المغرب- مندهشًا وعاجزًا عن وصف السينما، للتعبير عن أهميتها وقدرتها على صناعة الحدث والتأثير على حياة البشر وتجديد دوافعهم للحياة والغرق في المشاعر الحقيقية وقدرتها على التعبير عن كوامن النفس البشرية.

فقبل البدء، ما هي السينما؟ وهل هذا العمل الإبداعي يستحق كل هذا العناء؟

ماهية السينما:

يقول “روبيرت ألمتان” واصفًا السينما:

“السينما هى كيفية عيش أكثر من حياة..” 

حياة جديدة مع كل فيلم تشاهده. فقد أصبحت هذه الصناعة أكبر من مجرد وسيلة ترفيه، وأضحت مدرسة توازي كل المدراس الأكاديمية بل تتفوق عليها، ففي المدارس تستطيع القراءة والكتابة لكن السينما تزيد الوعي، تمكنك دائمًا من رؤية الأشياء بصور أخرى وتعيش حيوات البشر وتجاربهم وتفاعلهم معها، وتجد فيها الإجابات على كثيرٍ من الأسئلة وتتعرف على ذاتك فيها، فعند تفاعلك مع أحد المشاهد يعبر هذا التفاعل عن كوامنك ودوافعك وكل ما تشعر به بشكلٍ حقيقي، فقد ترى نفسك في إحدى الشخصيات من فيلم ما، تتعاطف معه ومع شخصيته المظلومة مثلًا، فهذا يعبر عنك ليس بالضرورة أن تكون مظلومًا في الحياة الواقعية بل تعبر عن شعورك الإنساني الحقيقي وفطرتك ورفضك للظلم. هكذا تحركنا السينما تجعلنا نعيش العالم الحقيقي في صوره المتعددة، وكلما زاد تفاعلك معها تصبح كالهاويس الذي تُفتح بوابته ليروي  الأرض الجافة الساكنة و يبث فيها الحياة، وهي تشبه الجنين في مراحل تكوينه تحتاج إلى العناية والدقة في صناعتها، لا تحتاج إلى الترقيع ولا الابتذال، وعندما تسيطر عليها قوة المال تصبح جنينًا مشهوهًا وأرضًا لا تنتج إلا محصولًا واحدًا يزعق الجوف منه!

ما هي الرأسمالية؟

الرأسمالية هي نظام اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وخلق السلع والخدمات من أجل الربح، تشمل الخصائص الرئيسية للرأسمالية: الملكية الخاصة وتراكم رأس المال والعمل المأجور والأسواق التنافسية.

وهذا التعريف الأكاديمي يحمل في طياته عكس ما يظهر، حيث أن الرأسمالية تصنع السوق وتصنع التنافسية المزيفة لخدمة أصحاب الأرباح فقط، فبذلك المصطلح القوي صاحب النفوذ وصانع الحدث، تعتبر الرأسمالية هي القوة المطلقة على الأرض، وكيف لا؟! وهي قادرة على تحقيق كل شيء؛ فهي تحول كل شيء لسلعة تجعل تسويقها أسهل، والحصول على أكبر عائد منها بشكل سريع يسطح كل شيء يدخل المال فيه لتدويره.

وعندما يكون الغرض من السينما المال فقط فلن تجد أفلامًا ذات قيمة، بل تجعل من المعنى مالًا ومن المعرفة وتداولها مجرد مال يجب الحصول عليه بشكلٍ سريع، فأصبحت شهرة الأفلام ومعايير نجاحها هي العائد منها، أصبحنا نسمع كتيرًا: “الفيلم  أنجح فيلم في التاريخ فقد كسر الرقم القياسي في الإيرادات”! وأصبحت سينما المثقفين كما يدعون  لا تسمن ولا تغني من جوع.

سيطرة رؤوس المال على التراث: 

وعلى سبيل الذكر استطاعت شركة إعلام المصريين ل “تامر مرسي” السيطرة على  الدراما المصرية، وأصبحت الوحيدة القادرة على صناعة الدراما الغنية في مصر، وهذا شيء في مجمله جيد جدًّا، لكن هذه الشركة تعبر فقط عن فصيل معين وكل ما تقدمه من دعم مالي كبير يخدم فئة معينة سياسيًا واجتماعيًا، حتى أصبحت الدراما لا تناقش أي قضية تخص المواطن أو الإنسان عمومًا، أصبحت دراما هتلر؛ تعبر فقط عن الآراء السياسية للنظام وآرائه وفكرته التي يريد أن ينشرها، حتى أصبح الموسم المصري لا يخلو من مسلسل أو عمل فني لا يتحدث إلا عن فئة واحدة بخط درامي واحد دون النظر لقضايا السواد الأعظم في المجتمع، وتشوه الوعي المجتمعي بقضايا وخطب سياسية يتم استهلاكها لا أكثر!

منذ نصف قرن من الزمن، حتى إن كان العمل الذي تقدمه بعيدًا عن الحياة السياسية فهو لا يقدم أي شيء عن معاناة المواطن ولا عن حياته، فترى في الدراما كل أشكال الحداثة التي لا تعبر عن الواقع الاجتماعي  للدولة؛ ترى في هذه الأعمال البيوت من (الكومباوندات)، ولا ترى الشارع المصري والشخصية المصرية بمعاناتها وحياتها الصعبة، ولا تناقش أي قصة من قصص المواطن المصري اليومية، تناقش فقط الشارع المصري في شكل مطاردة بوليسية ضد مواطن مصري في صورة بلطجي أو في صورة شخصية أسطورية دفعتها الظروف لتكون مجرمًا، فتناقش قدرة هذا المجرم على صناعة عالم الإجرام ولا تناقش حتى أسباب الإجرام في قضايا منفصلة، وكأنَّ دوافع الشر لا وجود لها في مجتمع غني ومرفه!

لم يقتصر دور الشركة على احتكار العمل التليفزيوني بل أيضًا لم يسع صدرها لتركه للمشاهد بشكل دائم -كما هي العادة عند صُنَّاع الدراما- وترك المحتوى الفني معروضًا على كل المنصات الاجتماعية، بل منعت تداوله شريطة الحصول عليه مقابل مبلغ من المال عبر منصة watch it وهي منصة إلكترونية تشبه Netflix.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أخفت التراث الدرامي القديم مثل زيزينيا وحسن أرابيسك وليالي الحلمية وغيره من الأعمال الفنية الخالدة والتي كانت متاحة للجميع، احتكرتها هي أيضًا وأصبحت سلعة مقابل المال رغم أنها كانت ملكًا للجميع!


يقول المخرج الكبير”Dziga Vertov” :

“الدراما السينمائية أفيون الشعوب، فلتسقط سيناريوهات البرجوازية الخيالية، تحيا الحياة كما هي.”

فلتحيا الحياة كما هي!

صناعة الابتذال والتكرار:

صحيح أن الكاميرا لن تدور إلا بمخرج يحتاج إلى أجر مرتفع، والفيلم لن ينجح إلا بفنان صاحب شعبية كبيرة يحتاج إلى أجر مرتفع هو الآخر، ومساعدين أكفَّاء وغيرهم، ولكن لأن آلة الإنتاج لا تفكر في شيء غير العائد من المنتج، يصبح التكرار والخطوط الثابتة سمة هذه الصناعة، فإذا استطاع تحقيق المطلوب منه، لماذا إذن لا يتم التكرار للحصول على المزيد والمزيد؟ فتكون هذه هي فلسفة السينما، الأمر الذي يقلل مساحة الإبداع الفني واكتشاف المواهب الجديدة.

فأصبحت صناعة كل موسم تشبه سابقه من ممثلين وحكايات، وحولت هذه القوة السينما وكل صورها المختلفة وحياة المبدعين إلى قوالب ذات طابع واحد لن تتغير بتغير الموسم، ف ” أمير كرارة” لن يخرج من عباءة الضابط ولا ابن الليل… والسبب ليس فيهم، لكنه قانون المال إن لم يكن أنت فهناك غيرك، حتى أنها تحرم أصحاب المواهب من فرض مواهبهم إلا في قضايا مبتذلة، هذا إن أُعطيت لهم الفرصة أصلًا! فالمال جعل من كل أبناء لبنان مواهب لأن المتلقي كائن استهلاكي يستمتع فقط بأشياء لا تزيد وعيه وصور لا تثير إلا شهواته!

في حديثٍ مع المخرج “أندريه تاركوفسكي” عند سؤاله عن أهم شيء في السينما كان رده صريحًا عن أزماتها قائلًا:

 “عندما يتخلَّى الفنان عن الحقيقة ويتوقف عن بحثه عنها، يكون لذلك أثر كارثي على أعماله؛ إن هدف الفنان دائمًا هو الحقيقة.” 

إن الرأسمالية لا يعنيها الفن أصلًا لتهتم بالحقيقة أو غيرها! فرغبة العائد والمال أقوى من المعنى والحقيقة والواقع ومشاكله، ولو كان الواقع وتناول قضاياه يدِّران الكثير من المال لزيفته الرأسمالية، كما يحدث في أيامنا هذه من صراع الدول على تزييف التاريخ لمصلحة أجنداتهم الخاصة، والسينما والفن منهم بريء!

تجارية الفن، إلى أين؟ 

الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات مع انتظار نتائج مختلفة.

آينشتاين


هل نرى أن عملية التكرار والابتذال تفيد هذه الصناعة أم تصنع المفلسين فنيًّا وتحتكر السوق وتقلل فرص المبدعين في المشاركة؟ فتخرج علينا إحدى الفنانات المصريات عبر صفحتها الرسمية تطلب فرصة للعمل في أي دور لأنها لا تعمل ولا يأتيها أي عمل فني منذ زمن! هل من المنطق أن يظل الموسم الدرامي بأبطال لا تتغير وبخطوط درامية متكررة كل موسم لا معنى لها ولا جدوى من إنتاجها؟ هل سيدوم هذا الإنتاج كثيرًا حتى يأتي وقت يكون مصدر السينما الوحيد أشخاص بعينها؟

وفي النهاية، السؤال يطرح نفسه: ماذا تريد هذه الشركات من السينما؟!