الختان: جرحٌ لا يلتئم

Comments 0

لي مرآة صغيرة أحبها وتحبني، أنظر فييها فأبدو أجمل من حقيقتي، وجهي الذابل فيها يبدو أبيض مشربًا بحمرة ليست لي، وإذا انكشف لها كتفاي زادتهما جمالًا فكأنهما يضيئان، أحب جسدي.

يقولون أن أول صدمة نتلقاها في حياتنا هي الفطام، فجأة تجد أنك ستكف عن تناول غذائك السهل الجميل، وبدلًا عنه ستطعمك أمك الخضر المسلوقة الكريهة. حسنا، لم أتلقَ هذه الصدمة لكني أهديتها لأمي حين رفضت الرضاعة بعد أربعين يومًا. لكني أعتقد أن صدمتي الأولى كانت مختلفة كثيرًا، في صباح ربيعي رائق حينما استيقظت وذهبت للحمام استعدادًا للخروج للمدرسة، فوجئت بقطرات دماء كثيفة قليلًا تحتل سراويلي القصيرة، لم أخف للحقيقة إنما صعقت، أنا أعرف معنى هذا جيدًا، اللعنة! بعض الدماء تعني أنني أصبحت امرأة، وأن هذا الوشاح الذي يغطي شعري لن يفارقه، لن أرتديَ ثياب البحر بعد الآن، إذا مد صديق أبي يده مصافحًا فلن أمد يدي، وبالطبع لا قبلات أو أحضان مرحبة ثانية.

كذبت، لم تكن تلك صدمتي الأولى في الحياة أبدًا، أعرف صدمتي وأحاول تجاهلها وإخفاءها والتوقف عن التألم بسببها لكن بلا فائدة. لا، ليست أول مرة أخذني جدي للحضانة ثم تركني مع امرأة لا أعرفها ظلت تلاعبني وأنا أبكي بينما يغادر هو ويغادر عالمي الذي أعرفه معه.

كان يومًا لم تطلع له شمس كما يقولون، إنما في الواقع كانت شمسه ساطعة، ليلته سوداء بلا شك أو ربما بضع ليال تسبقه كانت كذلك، نادتني أمي لغرفتها تلك الليلة، أجلستني بجوارها وقالت بصوت خفيض أنني قد كبرت بما يكفي وأن أبي مسافر وقد أوصاها أن يتم “الأمر” قبل عودته، ماذا؟! أي أمر؟ أنا!! لا يمكن، قالت يوم الأحد نذهب لخالتك ثم تبقين عندها حتى تستعيدين قوتك ثم تعودين هنا! تركتها وذهبت لغرفتي، تسابق دموعي دقات قلبي المفزوعة، تحاول أختي تهدأتي بلا فائدة.

علا نحيبي فوصل أمي لتناديني ثانيةً لكن لتهددني هذه المرة، لا مفر، لا رأي لك، ستصمتين، ستجففين دموعك هنا والآن، ستنامين بجواري، الرفض؟! حسنًا، لا مزيد من الذهاب للمدرسة، ولن ترتدي سوى ما أشتريه لك “وابقي موتي ولا تحصل لك مصيبة”، طفلةً كنتُ، مجرد طفلة غبية سخيفة؛ فقهرت دموعي، ومع أنني رفضت بشدة أن أنام معها لا أذكر من فينا انتصر ساعتها، لا يهم!

صباح اليوم الموعود المشئوم، ارتديت ملابسي وذهبت باطمئنان مع أمي، وصلت لبيت خالتي ولعبت كالمعتاد، ثم فجأة انقلب عالمي رأسًا على عقب حينما جاءت امرأة ضخمة الجثة لها فظاظة وذراع ضخمة مكسورة، تقترب مني النسوة الثلاث وأنا أرتجف، أمي تناديني، ولكني لا أذكر سوى جسدي الضئيل يجري هنا وهناك، بكيت، سببت المرأة، لعنتها، سال أنفي، أجري مرةً أخرى، ابنة خالتي الصغرى تصرخ “اجري” ولا أدري ماذا حدث حتى وجدت نفسي ممددة على الأرض وهن فوقي، ثلاثة أجساد وستة أعين، خالتي تنهرني “لا أنا مش طيبة زي أمك”، أمي تجلس بجواري تبكي وأنا أستنجد بها وأقول “لا يا ماما الحقيني” والمرأة الضخمة تعبث بشيء ما في  حقيبتها، لا أسامح نفسي من يومها أنني تعبت من المقاومة وصار بكائي استغاثة وتوسلًا لا قيمة له، لا أسامح نفسي أنني ضعفت وكنت للحظة خائفة فتركت لخوفي القيادة بدلًا عن الأدرينالين الذي كان يتقافز في عروقي، لا أسامح نفسي أنني وسط دموعي صرخت بصوتٍ مرتجف “خلاص، خلاص” ورفعت ساقي وأشحت بوجهي، أذكر ابنة خالتي وهي تخبرني أنها لا تستخدم مخدر، أذكر سكينًا باردًا حادًّا يقطع جزءًا لا أراه من جسدي وصرخة عظيمة تنطلق مني، أخذت كل ما تبقى من قوتي معها لأنني بعدها سكنت للأبد. أظن أنه هنا انكسر قلبي لأول مرة!

لا أدري هل تحتمل معي بقية التفاصيل أم لا، لكني لا أكتب لك عزيزي القاريء هذه المرة، أنا أؤمن أن كتابة الألم تساعد على تخطيه، وأنا حقا بحاجة لمحاولة هذا.

بعدما انتهت المرأة من”عملها”، لفت أيا كان ما اقتطعته من جسدي في خرقة ورشت عليه بعض الملح ثم ربطته حول معصمي، مدت يدها بوقاحة نحو نهدي ثم ألقت بتعليق بذيء لا أذكره، لم تكن بي قوة لأسبها أو لأدفع يدها في غلظة.

أرقدوني على سرير فأشحت بوجهي ناحية الحائط وسالت دموعي في صمت، فككت الرباط المشئوم وألقيت به تحت السرير، بعد ساعة ربما قالت أمي أنها ستذهب وسألتني إن كنت أريد شيئًا، فأجبتها في لهجة قصدتها وقحة لكن بدَت ضعفًا خالصًا، قلت “هاتي فلوس أجيب لب”. أعطتني حينها جنيهًا وبدافع الشفقة بعثت خالتي بإحدى بناتها لتشتريه لي، كان مقرفًا.

أحاول فهم ما حدث لي، ثلاث سنوات مذ خلعت ملابسي أمام أحد، ثلاث تبدو دهرًا الآن، ثم فجأة وجدت جسدي مباحًا وأكثر أماكنه خصوصية مشاعًا، لا يتم النظر إليه فقط بل إيذاؤه. كنت أسمع بهذه المغامرة المخيفة مع رفيقات اللعب بالشارع، إنه فقط “مشوار” تعودين بعده محمولة في سيارة أو على الأذرع، قلت لنفسي لا، أنا لست مثلهن ولن يحدث هذا لي، أنا أقرأ الأدب المترجم وأتابع السياسة ولا يضربني أبي كما يضربهن آباؤهن، لا هذا محال. على الرغم من هذا ظلت كلمة “مشوار” تدب الرعب في قلبي كلما قالتها لي أمي، على العكس منهن لم أنخدع وإن كنت أفضل لو خدعتني أمي، أدركت لِمَ يخفي الله عنا الوقت الذي سنموت فيه، لولا هذا لصارت الحياة رعبًا لا يطاق، لديّ اعتزازٌ شديد بنفسي أظنه سبب ألمي حتى الآن، شعرت بالمهانة والذل، اعتقدت حينها أنه ربما الاغتصاب لا يختلف كثيرًا عن هذا، لا مبالغة هنا، جسد ينتهك وروح مجروحة للأبد، أي اختلاف بينهما؟! نزعوا عني قدسيتي وصرت مثل فتيات الشارع، لا أتميز عنهن في شيء، قد يبدو تكبرًا لكنه آلمني أيضًا.. الله؟! لا أذكر سوى أنه في تلك الأيام لم يكن معي!

في ساعة الغداء رفضت أن آكل معهم فأمرتهم خالتي بإحضاري حتى لا يشك ابنها في شيء، حقًّا، تخافين عليّ من الإحراج؟! أكلت معهم ثم عدت للسرير، وفي المساء جاء خطيب ابنتها وكانت معه حلوى، جلست وشاركتهم الطعام والضحك، ثم فجأة وقفت وتقيأت كل ما بجوفي، يبدو أن دواخلي لم تتخلص من رعشتها بعد! شعرت بالمهانة، فانسحبت للسرير ونمت. استيقظت على صوت خالتي وشعور بالبلل يحيطني، شعرت بالذعر، ما بين ساقي مليء بالدماء، تمنيت أن يكون نزيفا جراء الجرح وأن أموت. لم يكن. قالت خالتي أن المرأة البشعة جاءت لتطمئن علي، بعدما فعلتُه بالأمس خافت، ما فعلتُه؟! لقد استسلمت يا حمقى. المهم أنها كشفت ستري ثانية، لا أدري كم يومًا بقيت هكذا، أشعر بالتقزز من نفسي، أيام كئيبة قضيتها بين قيء ودموع ودماء غزيرة لا تجف، وحاجة لا أستطيع قضاءها أو تنظيف جسدي بعدها.

جاء الفرج متمثلًا في أخي ليعيدني للمنزل، كذبت خالتي فقالت أنني مريضة وأوصته أن يحضر لي ما أركبه حتى البيت، رفضتُ وقلت له كنت متعبة وتقيأت لذلك هي خائفة، أقسمت عليه أنني لن أركب واعتبرتها معركة أخيرة يجب الفوز بها ومع هذا لا أذكر مطلقًا ماذا حدث، ربما ركبت وهي محاولة من عقلي لتخفيف وقع الهزيمة بنسيانها. بعد عودتي تقافزت على السلم كعادتي نحو السطح فنصحتني أمي في خفوتٍ ألا أفعل، حاولت أن أجمع لها في نظرتي كل الكراهية والسخط والخذلان والألم، حاولت فلا أدري نجحت أم لا، صاحبني أثرُ جسدي لبعض الوقت يتمثل في لاصقٍ طبي حول الجرح أحاول إزالته بصعوبة، أنظر أحيانًا للأسفل هناك، وأبحث عما أرادوا إزالته، حتى اليوم، لا أفهم. أكره أبي وأمي وخالتي والمرأة ونفسي الضعيفة وأخي الذي لم يكن هناك لإنقاذي والهرب مثل سوبرمان. لكن أقول لنفسي لقد نجحوا، أيًّا كان ما أرادوه فقد نجحوا فيه وتركوا بروحي مرارةً لا تزول!