رواية المقامر | حين تعرف النهاية المأساوية للفعل ومع ذلك تفعله!

Comments 0

مقدِّمة:


دعنا نوضِّح شيئًا عزيزي القارئ، هذه الرواية ليست أعظم ما كتب دوستويفسكي، فهي لا تضاهي “الجريمة والعقاب” مثلًا، كما أنَّها كُتبت على عُجالة…
إذًا فلماذا قد تقرأ هذه الرواية؟! الجواب بسيطٌ للغاية، هذا الرجل يبدع في أيِّ حالةٍ له، حتَّى لو كتب خوفًا من الفقر أو مضطرًّا لذلك!


دوستويفسكي في هذه الرواية يتحدَّث عن نفسه، عن باولين التي أحبها وذاق الأمرَّين منها، عن حبه للمقامرة الذي عصف بأشياءٍ كثيرةٍ في حياته، عن فساد المجتمع الروسيّ، وعن تناقض النفس البشرية.
إنَّ الروليت (عجلة القِمار) أتاحت له أن يعبث بالقدر -لو كان هذا ممكنًا أصلًا- كما كان القدر يعبث به، أن يحدد مصيره، أن يكسر حاجز الخوف والرهبة…


دوستويفسكي:


يَعُدُّه الكثيرون أعظم من كتب الرِّواية، وهو مثالٌ حيٌّ على مقولة: “مِن رَحِم المعاناة يُولد الإبداع”.
عانى الكثير طَوَال حياته؛ أُصيب بالصَّرَع في سنٍّ صغيرة وكان والده قاسيًا ومدمنًا للخمر. بدأ تعرُّفَه على الأدب في سنٍّ مُبكرة واشتُهر وهو ابن الخامسة والعشرين، إلّا أنَّ اللحظة الفارقة في حياته هي اعتقاله للمشاركة في نشاطاتٍ ثوريةٍ ضدَّ القيصر وقتَها، وحُكِم عليه مع رفقائه بالإعدام. ولمَّا صَفُّوهم لتنفيذ الحكم، أُصدر قرارٌ بالعفو عنهم وتخفيف الحكم لأربع سنوات في سجن كاتورجا بسيبيريا، وعلى الرَّغم من قسوة التجرِبة فقد فجَّرت بركانًا من الإبداع، وتربَّع بعدها على العرش الأدبيّ حتَّى وفاته.

تقلَّبت حياته بين الديون والجوع والفقر والمرض، حتَّى أنَّه اضطُرَّ للتسول في فترةٍ ما، وأدمن المقامرة زمنًا وظنَّ أنَّه قد فَهِم قواعدها، وكتب هذه الرواية وهو في أشدِّ لحظات تعلقه بها.
له أسلوبٌ شيِّقٌ ومُطَوَّلٌ في السَّرد؛ قد يُمضي صفحاتٍ طِوالٍ في وصف حالةٍ نفسيَّةٍ لشخصيةٍ من الشخصيَّات، مبدعٌ وغير متوقَع، تحمل رواياته قدرًا كبيرًا من السخرية، وتحليلًا متميزًا للجانب النفسيّ والوجوديّ للنَّفس البشرية، وكذلك تحليلًا للمجتمع الروسيّ آنذاك، وأشخاصها أقرب إلى اليأس من أيِّ شيءٍ آخر…



الشخصيات:


ألكسي إيفانوفيتش: شخصية الرواية الأساسيّة، هو مدرِّسٌ لعائلة الجنرال الأرستقراطية، عاش أسيرًا لحبين: حب باولين التي -في نظره- تحتقره ولا تعيرُه أيَّ اهتمام، وحب القمار الذي قدَّمَه على كل شيءٍ آخر، حتَّى باولين نفسها!
ألكسي الهادئ الحَذِر في المُجمَل، المنفعل المجازف في القمار، يتحول من المضحِّي لأجل باولين لشخص يفضل حب المقامرة على حبها، وربَّما يحمل تفسيرًا، فالمقامرة أتاحت له لَذَّة النَّصر، أعطته الخِيارات، منحته الحريّة -ولو كانت مزعومة- وهو الشيء الذي لم تُتِحه له باولين، فحب باولين على حدِّ وصفه “حبٌ ممزوجٌ بكره”، حبٌّ قد يدفعه لقتلها أو قتل نفسه لأجلها، إذًا فالمقامرة هي الشيطان الذي يعرفه!

باولين ألكسندروفنا: في الواقع هي باولين سوسلوفا -حب دوستويفسكي المعذَّب- التي احتفظ باسمها في الرواية، وصفها في إحدى رسائله بأنَّها أنانيّةٌ ومغرورة، وبعدها قال: “ما زلت أحبُّها، ولكنِّي لن أحبها أكثر من ذلك، فهي لا تستحق هذا”. حتَّى في الرواية، هي قاسيةٌ متبَلِّدةٌ على حدِّ وصفه؛ تُعامله معاملة السَّيِّد للعبد، ترتدي قناع الكبرياء وهي أصلًا مَبيعةٌ لا تملِك قراراتها!


العجوز بابولنكا: عجوزٌ غنيَّة، وريثُها الوحيد هو الجنرال، ينتظر الجميع موتها، فتفاجئهم هي مفاجأةً غيرَ سارةٍ وتزورهم وهي في صحةٍ جيدة، لتبدأ رحلتها مع المقامرة فتهلك فيها كلّ ثروتها.


الجنرال: رجلٌ تافهٌ أغرق نفسه في الديون، ليصبح سبيله الوحيد في النجاة هو وفاة الجدَّة، وقع في حب “مدموزيل بلانش” وكرَّس حياته لرضاها، ولم ينتبه أنَّها لا تبادله نفس الشعور وإنَّما تمنح حبَّها صاحبَ المال الأوفر!


مستر أستلي: إنجليزيٌّ شهم، ساعد ألكسي طَوال أحداث الرواية، وأحبَّ باولين في صمتٍ ولم يخبرها بحبه.

“الناس محتشدون في قاعات القِمار يسحق بعضهم بعضًا، ألا ما أشدَّ وقاحتَهم جميعًا!”
وصَفَ الرجل حلقة المقامرة والتوتُّر الموجود حولها، فهي تمتلئ بأشياءٍ تجدها متناقضةً للوهلة الأولى؛ في الحلقة الغنيُّ والمُعدم، والعجوز والصبي، والمهذَّب والفاحش. كلهم اجتمعوا على شيءٍ واحدٍ هو حبُّ المال، يتركون أنفسهم الزاهدة وأخلاقهم الفاضلة خارجًا ويصطحبون معهم نفوسهم الجشعة، فهنا العالم الماديّ، هنا شهوة السلطة، هنا كلُّ شيءٍ مباح!


لم يكتفِ فقط بوصف الأجواء المحيطة باللُعبة بل وصف نفسية المقامر، ففي البداية كان اللعب لمجرد التجرِبة ثم لحاجته إليه، ومن ثَمَّ تطور ليصبح حياته كلَّها، فيه اللَذَّة التي لا تضاهيها لذة أخرى، لذة الحرية الكاذبة، لذة مباغتة القدر، هو الحب الذي يُفضِّله على حب نفسه التي بين جنبيه، فلو اجتمع لديه ثمن وجبة العشاء لأنفقه في مقامرةٍ أخيرة!
لا يعرفون في المدن إلا صالات القمار ولا يجيئون إلا من أجلها، ولا يكادون يلاحظون شيئًا مما يجري حولهم طوال اللَّعِب، ولا عمل لهم غير المقامرة. هم مرضى، لا يهمهم كثيرًا الربح أو الخَسارة، فهم يبحثون عن التحدي والمجازفة فقط…


“آهٍ من أولئك الرَّاضين عن أنفسهم! آهٍ من ذلك الزَهْو المغرور الذي يصاحب كلام أولئك الثرثارين، حين يبدؤون بإطلاق نصائحهم ومواعظهم وعباراتهم المأثورة!”


حاذر يا سيدي؛ المقامر هو كلُّ شخصٍ فينا، كلنا يقامر بطريقةٍ أو بأخرى، يستولي علينا هَوَسٌ تجاه شيء ما فنضحِّي بالكثير من أجله ولا ننظر إلى العواقب، لذا قبل أن تطلق الأحكام تأمَّل نفسك!

لا ترفعْ آمالك عاليًا، فرواية المقامر روايةٌ مختصرة، لعلَّه كتبها واعظًا مَن بعده، أو لعلها سطورٌ يُنَفِّسُ فيها عن بعض ألمه، أو أنَّه كتبها فقط لمجرَّد خشيته الفقر، ولكنَّها تظلُّ روايةً حسنةً أنصحك بقراءتها.