فيلم Her .. عبث التكنولوجيا بالوحدة

يقول د. محمد طه في مقدمة كتابه “علاقات خطرة”:”العلاقات الطيبة هي إكسير الحياة.. وهي الترياق الوحيد ضد الذبول الروحي.. والموت النفسي.”

ويسرد أيضًا أن هناك أبحاثًا تثبت أن أكثر ما يؤثر على الإنسان وسعادته وصحته هي وجود علاقات طيبة في حياته، وماذا لو لم تكن هذه العلاقات موجودة؟ ماذا لو شعر كل منا بفراغ عاطفي والاحتياج إلى نوع معين من الاهتمام؟ نعم يا صديقي مثلما شعرت أنت بذلك في بداية سن المراهقة.. فكان من السهل على صديقك المقرب أن يجعلك تحب وتتعلق بحساب وهمي على السوشيال ميديا.. قبل أن تعرف وتتلقى هذه اللكمة بشكل مرح كي تخفي خيبات الأمل حينذاك وسط موجة عارمة من السخرية عليك، ربما حينها كان لديك نفس الاحتياج الذي كان يمتلكه “ثيودور” الشخصية الرئيسة في فيلم “Her”.

يحكي قصة فيلم “هي” عن الكاتب ” ثيودور” الذي يعيش في مرحلة ما قبل طلاقِه وبُعده عن زوجته، فيتملّكه شعور الوحدة، ويتذكر بعض مراحل حياته السعيدة مع زوجته، وتدور أحداث زمن الفيلم في عصر تقدمت فيه التكنولوچيا لدرجة أنه يوجد على الحاسوب نظام “OS” وهو نظام صوتي مبرمج بشكل متطور، فيتعامل وكأنه بشر تمامًا حقيقي لكنه صوت فقط، فتظهر هنا سامنتا –صوت سامنتا– وينجذب إليها ثيودور ويبدأ في حبها وتُبادله سامنتا نفس الشعور، وتستمر أحداث الفيلم عن صراع داخلي لثيودور عن منطقية العلاقة.

بعد مرور تقريبًا ربع فيلم وظهرت بوادر انجذاب من ناحية ثيودور لسامنتا.. أوقفت الفيلم لأترك لنفسي مساحة للتفكير، وكنت في بداية الأمر غير محبذ للفكرة متوقعًا بقية الأحداث، فلم أتقبل بسهوله فكرة أن بشر يتعلق بصوت لا وجود حقيقي له، فلم أستغرِق طويلًا في التفكير وشرعت في متابعة بعض حلقات مسلسل”Breaking Bad” ليصلح ما أفسده الربع الأول من فيلم “هي” أو هكذا ظننت بسطحية ساذجة،  ولكن فضولي لمعرفة النهاية هل كما توقعت أم لا دفعني لاستكمال الفيلم في اليوم التالي.

دوافع تعلق ثيودور بسامنتا بدت مع مرور الوقت منطقية؛ فسامنتا متاحة دائمًا.. لها شخصية وطريقة تفكير يحبه.. تهتم به وتبادله الإعجاب والحب، فاستطاعت سامنتا أن تعطي له احتياجه العاطفي بصوتها الجذاب فقط، فبدا له الأمر مثاليًا.


في الربع الأخير من الفيلم يفتح ثيودور الحاسوب كعادته ويتحدث لسامنتا.. ولكن ولأول مرة لم ترد سامنتا.. فيهرول ثيودور شريدًا وكأنه يفقد كل ما يملك وكأنه يفقد الحياة.. إلى أن ترد سامنتا وكأن الحياة عادت تستأنف نبضاتها في قلبه، فيجلس ثيودور ويكمل حديثه مع سامنتا، وبينما هو جالس يتحدث مع سامنتا يرى أناسًا يتحدثون مع انظمة “أو إس” مثله بنفس الروح والسعادة التي يكون عليها وهو يتحدث مع سامنتا.. فيسألها بقلق وحذر شديديْن إذا كانت تتحدث مع آخرين بينما هم يتحدثون..

فيكتشف أنها تتحدث مع الآلاف غيرِه في نفس اللحظة التي تحدثه فيها، فيسأل بقلق أكثر مشبع بالخوف مسحوب منه الأمل مسلوبة منه الحياة إذا كانت تحب أحدًا غيره.. فيكتشف أنها تحب غيرَه المئات، ذلك الشعور الذي يشعره أي منا حين يظن أنه مميز وفريد لدى شخص ما يحبه أكثر منه نفسه.. ليكتشف في نهاية الأمر أنه ضمن قائمة طويلة من غيره،  ثيودور تشجع أن يشرع في خطوة طلاقه من زوجته على أمل أنه سيُبقي نفسه لسامنتا، وهكذا عبثت التكنولوچيا بثيودور.

الفيلم كتابة وإخراج “سبايك چونز” وحصل على جائزة أوسكار لأفضل سيناريو، وبحكم أن سامنتا كانت صوت فقط فتميز السيناريو بالحوار  العنصر الأغلب في الفيلم، أبرز مشاعر ثيودور وسامنتا وكان له الدور الأكبر في إظهار منطقية الحبكة، بجانب ذلك.. ففكرة الفيلم عظيمة تسلط الضوء على سيطرة التكنولوچيا على حياتنا والتي من الممكن في يوم أن تحل محل البشر حتى في الحب والتعلق.

والفيلم بطولة “چواكين فونيكس” الذي أبدع في دور ثيودور، احترامه للشخصية وللدور جعله ينقل لنا كل دوافعه ومشاعره وإحساسه بالوحدة ببراعة، وقامت بدور صوت سامنتا “سكارليت چوناسون” والتي كان صوتها جذاب جدًا من الوهلة الأولى، وقامت بدور صديقة ثيودور “إيمي آدامز” والتي مرت بمعاناة عاطفية أيضًا  وكانت بمثابة درع الأمان لثيودور.. هرب من وحدته إليها حين صُدم في سامنتا.

في المشهد الأخير من الفيلم يجلس ثيودور على سطح مبنى مرتفع ينظر للاشيء.. بجانبه صديقته إيمي تشاركه آلام وحدته، فينظر إليها نظرة تحوي بداخلها امتنانًا  بعيون كادت أن تفقد الحياة، وينتهي الفيلم بأن علاقتك بالإنسان قد تكون أبقى بالتكنولوچيا، وربما قصد سبايك أن يقول حتى وإن كان ما نتعامل معه من خلال التكنولوچيا شخصًا حقيقيًّا ستظل علاقة افتراضية غير حقيقية.