البائسون في الأرض

المَكتوبون فى سجلات الأحياء بالخطأ، المستنزفون المُستنِدون إلى كل حائط فى الأوقات الصعبة، يكرهون التمرد، ويكرهون اليسار، ويكرهون اليمين، ولا يُحبون فى أي شيء غير الوسط، لم تُعطِهم الحياة فرصة لأخذ رأيهم فى مصائرهم، يبكون مع كل باكِ، يضحكون مع كل ضاحكِ، يندمجون مع أغنيات أم كلثوم متى سمعوها، مدخنون سجائر الـ”كليوباترا” ،المديونون منذ بدايات الشهر والحق أقول أني لو أنصفتهم لقلت منذ بداية الخليقة.


ولأن المجتمعات تحتاج موارد بشرية -فقط- هم موجودون، هم فقط موجودون ليكملوا صورة المجتمعات، لأن “بالأضداد تعرف الأشياء” هم موجودون ليظهروا مدى السعادة الممكنة فى الحياة، بؤسهم يدل على احتمال وجود الأمل في مكان آخر -طبعًا- ،واستكانتهم تدل على احتمال وجود غضب في مكان آخر، ورضاهم يدل على ما قد يمتلك الآخرين من سخط،  .. وهكذا.


نراهم يوميًا بؤسهم فى تزايد، وهمومهم فى تثاقل، لا يرضون -ربما- إلا عن السماء، وجوههم عند النظر إلى السماء تختلف، تتحول من حالة لأخرى، نراهم فى المواصلات وفى الشوارع وفى المنازل وحتى فى المرايا! فهؤلاء من الوارد جدًا أن يكونوا أنا أو أنت، ومن الوارد أن يكون اليأس قد بلغ بنا درجة لم نتصور أن نصل لها يومًا، لم يكن أبدًا فى مخيلة طفولتنا أن تكون الحياة بهذه القسوة، رسوماتنا الصغيرة فى الفصول كان أغلبها الأزرق والأخضر والأسود فقط لتحديد الأشكال، فبأى ذنب أصبح هؤلاء وأصبحنا لا ننظر إلى السماء إلا طمعًا فى رصاصة الرحمة الإلهية، التي تنهي الحياة أو بالأحرى تنهى المتاعب.


قد يتهمني البعض بأنني متشائم ولكن هؤلاء مظلومون، وبحاجة -حتى- لمن يشعر بظلمهم، ومظلومون باسم العدالة؛ فَالقانون يُعاقب من سرق ليأكل، أسوةً بمن سرق ليزداد ترفه، هؤلاء الطائفة فى الحقيقة لا اسم لهم محدد ولكني أجد أن عنوان كتاب “المعذبون فى الأرض” للعظيم الدكتور طه حسين مناسب، أو قد نسميهم المنفيون إلى العالم كأنهم منفيون من أبدية الله ليعذبوا فى الحياة لحكمة يعلمها الله ورسوله والراسخون فى العلم طبعًا.


ولأن “الحب حظ المساكين” -كما قال الراحل المبجل السيد /محمود درويش شاعر المقاومة الفلسطينية- فَأولئك عزائهم الوحيد أن يدركوا غاية الحب، فلك أن تتخيل ماذا سيفعل الحب بتلك الحياة المعقدة جدًا رغم ما هي عليه من بساطة التى يمتلكها من أصيب بسرطان فقر، لابد وأن الحب سيهون عليهم مما يلاقونه حتى ولو جزء بسيط، لكنه سيكون بمثابة متنفس لِرئاتهم التي اعتادت تنفس الهواء المدنس بالجوع والحاجة والقهر الذي يطحن الرجال، أظن وربما يتوافق معي أحد ما أن الرجل الكادح السالف ذكره ستكون عودته إلى المنزل الخالي بعد يومٍ طويلٍ من العناء مع رفاق الكدح كما لم تكون أبدًا عودته لمنزل تزين بوجود من يهوى ،سيكونون سعداء بالطبع، ذلك لأن التفاصيل البسيطة المرهقة ذابت فى كأس الحب الذي أعداه كما تذوب قطعة سكر في فنجان شاي.


على الرغم مما يعانوه ونعانيه معهم ،وعلى الرغم مما يقاسون من متاعب وصعاب ونقاسي معهم فنحن مدينون لهم بمعروف صنعوه لنا ربما دون أن يدركوا أولئك البؤساء هم من فجروا مكامن الإنسانية فى نفوسنا فشعور الفرد بمدى عظمة إدراكه لكونه إنسان شعور نبيل لا يدرك بسهولة، فإذا كنت مقدر فعلًا فأنت بالضرورة ضد كل قمع وكل ظلم وكل استبداد وكل جوع وكل فقر وكل سجن وكل سجّان.


شكرًا لهؤلاء المبتسمون رغم ماهم فيه، شكرًا لمن صبر دون أن يتحول فيصبح كالذئب الجائع وسط قطيع ماشية، شكرًا لأنهم جعلونا ندرك كل يوم كم هو عظيم حتى مجرد أن نأسف لحال الجياع، شكرًا لهم لأن هؤلاء وهؤلاء فقط من يزرعون فى نفوسنا الجمال إذا ما ابتسموا لنا ابتسامة عابرة برغم ما هم فيه من أسى.