حريق القاهرة.. نهاية كل شيء؟

فقط هواء ونيران ويملأ الرمادي الكون.. تلتهم النيران كل شيء شيئا فشيئًا، لمسة واحدة ويطغو الدخان على الصورة، وتحت ستار الدخان يبدأ العبث.

كان كل شيء على المسارِ الصحيح وفي مكانِه المناسبِ، في مشهد بدَت فيه مصر كدولة متقدمة في هذا العالم يضرب بِها المَثل في العمل السياسيِ بعد حدث نادر في بلدنا، آخرِ انتخابات حرة شهدتها البلاد كما وصفت عام ١٩٥٠م.

كانت الأوراق تستنفذ من الملك والإنجليزِ، والشعب يغلي كالبركان بعد هزيمة مدوية في حرب فلسطين بسبب جيش ضعيف أنشأته الإنجليز وصفقة للأسلحة الفاسدة على يد الملِك وحاشيتِه وثورة على وشك البدء، ورأت بريطانيا أنْ يتولى الوفد رِئاسةَ الوزراء لأنه قادر على التحكم في الحركة الوطنية بعد تدهورِ شعبية فَاروق، وفاروق بدوره يقوم بلعبة سياسية تحسب له بعد تدنِي مركزِه، ولكن انقلب السِحر على السحرة، فألقَى الوفد بمصطفَى النحاس باشا كالثعبان رئيسا للوزراء ليلتهِم سحر الملك والإنجليزِ.

انتهتْ انتخابات البرلمان يوم السبت ٣ يناير ١٩٥٠م، واكتسح الوفد البرلمان، والقي مصطفَى النحاس وسط الأفاعي وأمام شعب يغلي غضبا رئيسًا للحكومة، والضباط الأحرار مستترين في الجيش يتلاعبون بالأيد الملخفية، لم يوفَق النحاس كثيرًا في مقَاليد الحكم ولكن يحسب له التهامهُ للإنجليزِ وللملك وحاشيته، فصار يضرِب بيمناه وبادر إلى محاربة الفساد المتسبب فيه حاشية الملك، ويضرب ييسراه ويفتح قضيةَ الأسلحة الفَاسدة التي انحشرت فيها أصابع الملك وأتباعه، ويضرِب بالإنجليزِ عرْض الحائط ويلغي اتفاقية ١٩٣٦م، ووسط مظاهرة مليونية تطالب بجلاء الإنجليزِ وانْسحاب ٤٠٠ ألف عامل مصري من معسكرات الإنجليزِ استجابة لنداء الوفد وخلال الأسابيع التالية لهذا القَرارِ، ارتفعت وتيرة المعارك ضد الإنجليزِ في الإسماعيلية ومدن القنال، ووقفت ضد جبروت الإنجليزِ تطالبهم بالاستسلام يوم ٢٥ يناير حتى احترقت القَاهرة في اليوم التالي.

حريق القاهرة

الوضع السياسي آنذاك يتجلى في مشهَد عزيز فهمي الذي صاح تحت قبة البرلمانِ ردًا على مشروعِ القانونِ الذي تقدّمَ بهِ استيفان باسيلي حوْلَ تغليظ عقوبة النشرِ قائلا: “كيف لحكومة الحرياتِ أن تكون معولًا لهدم الحريات”.
كان الحال كما ينبغي أن يكون، شعب مطالب بحقوقِه..ِ وبرلمان يمثل الأمة.. وحكومة تعمل لصالحه لتنفيذ إرادته.. وموقفهم أقوى من الملك ويعملون يدًا واحدة للتخلص من سرطانِ الأمة القابع في القنال وأطراف الدولة، لاستنزاف الوطن قدر الإمكان، ولكن مصرنا كما عهِدناها دائما تتلقى الرصاص في الرئتين وقت محاولة استنشاق الهواء، مرة تتلقاها من فرعون، ومرة من الاحتلال وأخرى في نفسها انتحارا.. وهذه المرة غير معلومة الهوية.

ويوم ٢٦ يناير١٩٥٢م، اخترقت الرصاصة رِئتي القَاهرة واستقرت بهَا وأشعلَت النيران فيها حتى احترقت واحترق معها كل شيء.. والتهمت النار نحو٧٠٠ محل تجاري ودارًا للسينما وبنوك ومكاتب طيران ومطاعم ومقاهي وحدائق، وتركت خلفَها ٥٠ قتيلًا مصريًا و٩ أجانب. واحتجزت النيران العاصمةَ وطوقتها بالدخان وتحت ستارِ الدخان سقَطَ كلُ شيء.

“لم يسقط اليسار وحدَه فقد سقَط اليمين منذ حريق القَاهرة في الخمسينيات”

– د.مصطفَى محمود من كتاب سقوط اليسارِ.

الأشهر التالية للحريق كانت احتضارا لموت السياسة وتكفينِ الساسة؛ فعقب الحريق مباشرة أعلنت الأحكام العرفيّة واْعتبر أي تجمع من خمسة أشخاص أو أكثرِ مهددا للسلم والنظام العام يعاقب من يشترك فيه بالحبس، والملك الذي وقت الحريق كان يحتفل بمولوده الجديد انتظر الفرصة وقام ببداية الصيد وأقَال الوزارة، وأتى بوزارةِ علي ماهر التي اتبعَت نهج النحاس وفتحت قضيةَ الأسلحة الفاسدة، فأقيلت هي الأخرى واستغَل الملك ستار الدخان أحسن استغلال لينقذ ذاته من القضية التي ورط نفسه فيها، واستمر على هذه الحالِ في إقالة أي وِزارة لا تأتي على هواه حتى حدثت حركة ٢٣ يوليو وتم عزل الملِك ورحيله عن مصر نهائيًا.

وأحسن الضّباط الأحرار بدورِهم الاستغلال.. فَتحرّكوا بانقلاب عسكريِ على الملك، وانتهت حركتهم بعزل الملك وإنهاء الملكية، وتبدلت الحال من الملك بملك آخر وهو مجلس قيادة الثورة وحاشية الملك استبدلت بالعناصرِ العسكرية في العملية السياسية، ولكن تزيد سلطتهم على سلطة الملك بالسّلام في أيديهم وفي جيوبِهم مفاتيح المعتقَلات.

وتمّ إلغاء الدّستورِ والملكية وإعلان الجمهورية وتم حل الأحزاب وفتح أبواب المعتقلات على مصراعيها لكل من تخرج من فمه كلمة للمعارضة وانطوت صفحة الديمقراطية التي استمرَت سنتين فقَط تبِعهما حريق القَاهرة واحتضرت الممارسَة السياسيةُ وتبعتها حركة ٢٣ يوليو فأصدرت عليها حكما بالإعدام.

ولكن من أحرق القَاهرة؟

“لقد كانَ هناك من يعتقد أنَ حريق القَاهرة مثل حريق “بوجوتا” عاصمة كولومبيا، تمّ بتدبيرِ الشيوعيين وكان هناك من يعتقد أنها مؤامرة بريطانية وكان هناك من يعتقد أنها مؤامرة وفدية ولا زال آخرونَ يعتقدُون أنها مؤامرة من القصرِ”

– محمد نجيب من كتاب كنت رئيسًا لمصر.

تعددت الاتهامات، فلكل طرف طرف آخر يتهمه بالجريمة، فالليبراليون يتهمون الإخوان والإخوان يتهمون العسكريين والعسكريون يتهمون الإنجليز والملك والإخوانَ، وكلها فقَط اتهامات ولا أحد يعلم حتّى يومنا هذا من أطلق رُصاصةَ حريق القَاهرة.